في أبريل من عام 2016 نشرت مقالاً عن فرضية الانقلاب العسكري الوشيك في تركيا. سبق ذلك المقال المحاولة الانقلابية البائسة بثلاثة أشهر فقط، ما جعل الأمر يبدو وكأنه تحقق لنبوءة. كان من المدهش أن تتحقق هذه الفرضية التي كان كثيرون يستبعدونها ويرون أن فيها كثيراً من المبالغة والتشاؤم.
في حقيقة الأمر فإن ذلك المقال لم يكن قد بني على الحدس بقدر ما بني على قراءة لمؤشرات واضحة لا تغيب إلا لمن تعامى عنها. دلت تلك المؤشرات على أن كثيراً من الأطراف والقوى الإقليمية والدولية باتت تضيق ذرعاً بهذا المارد التركي العصي على التطويع والتطويق، كما دلت على أن هذه الأطراف ليست بصدد الاستسلام، وأن محاولاتها لتقوية سيطرتها الإقليمية ولتحجيم القوة التركية سوف تستمر. لكن تحجيم تركيا التي شبت عن الطوق، مسجلة نفسها ضمن الدول الأكثر تأثيراً في عالمي السياسة والاقتصاد على الخريطة الدولية بدا صعباً.
زاد من صعوبة ذلك الثبات والتماسك الذي كانت تظهره هذه الدولة، رغم الامتحانات الكثيرة التي تعرضت لها. كل هذا جعل من كانوا متربصين بها، ومن يرون أن في تقدمها خطوات أكثر على الصعيد الاقتصادي تهديداً لهم، جعلهم يرون ألا مفر من محاولة تغيير القيادة التركية، وصولاً لغاية استبدال مشروعها بآخر أكثر سيولة، وهو الاقتراح الذي قدمه فعلاً بعض المنظرين الغربيين، قبيل محاولة الانقلاب، مراهنين على فرص نجاحه.
صحيح أن تركيا انتصرت بشكل بطولي على تحدي الانقلاب العسكري، لكن التحديات التي يواجهها هذا البلد لم تحسم جميعها بعد. وضع الأمور في هذا الإطار يجعلنا ننظر لمحاولة الانقلاب الفاشلة باعتبارها جزءاً من سلسلة محاولات، هدفت لإضعاف الدولة التركية. محاولات من بينها استخدام الإرهاب وتحريض الجيران وتحجيم التعاون مع حلف الناتو ودوله، التي ظلت ترفض مد تركيا بمعدات دفاعية، كما أن من بين هذه المحاولات المساندة العلنية من جانب الحلفاء الغربيين لأحزاب المعارضة التركية الكردية المسلحة، التي نشطت بشكل مكثف في السنوات الأخيرة، مستغلة الوضع الإقليمي المعقد والدعم المفتوح من قبل من كانوا يصفونها بالإرهاب قبل أعوام.
اعتادت تركيا أن تواجه تحدياتها بشكل منفرد، وأن تُخذل من قبل دول تجمعها بها مصالح مشتركة كثيرة، وليس أدل على ذلك من استشعار حقيقة أن أكبر الحملات الإعلامية والدعائية المضادة لها كانت تأتيها من قبل الحلفاء في المنظومة الأطلسية، وهي حملات وصلت في بعض الأحيان حد التحريض والإساءة، وتجاوز اللياقة السياسية والدبلوماسية.
هكذا وجدت تركيا نفسها داخل الحلف الغربي ومستهدفة من قبله في الوقت ذاته، ولعل العلاقة مع الولايات المتحدة التي تأوي المتهم الأول بالمحاولة الانقلابية، والتي تقدم العتاد العسكري للمجموعات الكردية المعارضة تقدم هي الأخرى مثالاً جيداً على هذا الازدواج. هذه العلاقة تدخل اليوم نفقاً مظلماً، حيث تجاوز الأمر التلاسن السياسي وما عرف بأزمة التأشيرات بين البلدين، ليصل حد التهديد بفرض عقوبات تشمل مجالي الدفاع والاقتصاد على الدولة التركية، عقاباً لها على انفتاحها على روسيا. هذه التهديدات ستفرغ، في حال تطبيقها، حلف شمال الأطلسي من مضمونه.
بالعودة لما ظهر مؤخراً من تراجع في سعر العملة التركية يمكن القول إنه لا يمكن مناقشة ذلك بمعزل عن الحقائق السابقة، حتى إن كان الموضوع يبدو في ظاهره اقتصادياً بحتاً. نحن هنا بصدد اشتباك بين ما هو اقتصادي وما هو سياسي، اشتباك يتعزز حين يتم استحضار توقيت هذا التراجع وتزامنه مع اكتمال التحضيرات لعقد انتخابات تركية مبكرة، فرضتها هي الأخرى تحديات داخلية وخارجية.
هذا التزامن والتصادف غير البريء جعل كثيراً من المتابعين ينظرون لما بات يسمى بمحاولة «الانقلاب الاقتصادي» على أنها جزء من الحرب الباردة التي تمارسها جهات كثيرة ضد أنقرة. لم يقتصر الأمر على العامة من المتابعين فقط، بل تم تبني هذه النظرة من قبل القيادة الرسمية التركية التي أطلقت على لسان الرئيس أردوغان ووزير خارجيته اتهامات مفتوحة ضد بعض الدول «الحليفة والإسلامية» التي اتهمت بالتآمر الاقتصادي ومحاولة النيل من الدولة التركية.
التساؤل عن سبب هذا التراجع في سعر صرف الليرة التركية سيبقى مطروحاً، فمن المهم بالنسبة للكثيرين في داخل تركيا وخارجها معرفة ما إذا كان الوضع سيستمر على هذه الحالة لفترة طويلة، وإذا ما كان هذا التراجع، لسبب أو لآخر، سيستمر، فإنه يجب معرفة تأثير ذلك على مستقبل الاقتصاد التركي، وعلى تدفق الاستثمارات، كما أن من المهم معرفة تأثير وانعكاسات كل ذلك على الحالة السياسية الداخلية التي تتسم بالتنافس والاستقطاب.
الاقتصاد هو بلا شك مرآة السياسة وهو الركيزة الأهم والنجاح الأبرز لحزب العدالة والتنمية الحاكم، الذي استطاع خلال فترة قصيرة تحقيق معدلات نمو كبيرة، والانتقال بالبلد من حالة اقتصاد اللاارتباك إلى مصاف الدول الأقوى والأكثر استقراراً، ومن هنا تأتي أهمية الموضوع وذلك الارتباط الذي لا ينفصم.
بالمقابل يبرز سؤال آخر هنا ويفرض نفسه وهو: إلى أي مدى يمكن إلقاء اللوم في ما يحدث على الخارج المتربص فقط، وإن كان هناك دور فعلاً لأيادٍ خارجية عابثة، فما هي الحدود التي تستطيع الوصول إليها وإلى أي مدى يمكنها أن تتدخل أكثر وتعمل على تلويث وتفخيخ الحياة السياسية التركية؟ التحديد الموضوعي بدون تضخيم أو تهوين لا بد منه، حتى لا نجد أنفسنا أسرى لنظرية المؤامرة المغرية، وحتى لا نتجاهل إمكانية وجود أسباب داخلية لهذا التراجع، سواء منها تلك المتعلقة بطبيعة الاقتصاد التركي أو بالتدافع والمعارك السياسية.
الإجابة على كل ذلك ليست سهلة وتتطلب معرفة دقيقة بعلم الاقتصاد الواسع من جهة، وبخصوصية الاقتصاد التركي من جهة أخرى، كما تتطلب إلماماً كذلك بطرق عمل وكالات التصنيف الائتماني (المنبع الأكبر للشائعات الاقتصادية)، وما إذا كان من الممكن أن تخضع تقييماتها لاعتبارات سياسية، حيث أن من المعروف أن أهم هذه الوكالات أمريكي الأصل، وأنه قد تصادف أن منحت، في الوقت ذاته، الذي قللت فيه مؤشراتها من شأن تركيا تصنيفات متقدمة لدول باقتصادات منهكة.
الجهل بهذه التفاصيل وبالإجابات العلمية لهذه الأسئلة سوف يؤدي لأن تكون الأحكام المستخلصة معممة وعاطفية، وهي للأسف الحالة التي نعيشها الآن والتي نضرب لها مثلاً بما تفعله بعض القنوات الفضائية الإخبارية، حين تعمل على استضافة شخصيات لا علاقة لها بالاقتصاد لمناقشة سعر الليرة، ما يجعل هذه الشخصيات لا تستطيع، وإن كانت مميزة في مجالات أخرى، أن تقدم سوى اجترار مكرر للنظرية التآمرية، أو تثبيت سطحي لما يدعم توجه هذه القناة أو تلك.
د.مدى الفاتح
القدس العربي