أنقرة – تعكس تصريحات المسؤولين الأتراك والروس والتفاهمات بين أنقرة وموسكو، وأحدثها كان التفاهم حول انسحاب قوات النظام السوري من مدينة تل رفعت في ريف حلب الشمالي، تحالفا متينا بين روسيا، وتركيا، التي دخلت الملعب السوري بهد تحسن علاقتها بموسكو. لكن، تخفي الواجهة الجميلة التي يعمل على تصديرها الطرفان، وبشكل أخص الأتراك، انقسام عميق وعدم ثقة متبادل ومصالح إقليمية متباينة.
ويؤكد المحلل التركي في شؤون الدفاع براق بكديل، أن العلاقة بين موسكو وأنقرة لا تخلو من تعقيدات كثيرا ما غشاها تعرج تركيا بين مصالحها الروسية والغربية، مقدما، في دراسة نشرها مركز بيجين السادات، قراءة ما بين سطور تاريخ العلاقة بين موسكو وأنقرة حليفة المعسكر الغربي في فترة الحرب الباردة ضد منذ السوفييت والمد الروسي.
توتر وعودة
نجحت تركيا في الاستفادة من التحالف مع روسيا لتصبح طرفا مهما في الحرب الدائرة في سوريا سواء من حيث جانب المفاوضات (محادثات أستانة واتفاقات منطاطق خفض التوتر)، أو من حيث التواجد العكسكري في العمق السوري، على غرار عملية غض الزيتون. وسهلت لها هذه العلاقة التفاوض مع الأميركيين، على غرار ما حدث مؤخرا حول انسحاب قوات سوريا الديمقراطي، ذات الأغلبية الكردية، المدعومة من واشنطن، من مدينة منبج (شمال شرق حلب). وحصل هذا الاتفاق بالتزامن مع اتفاق آخر مع الروس يقضي بانسحاب قوات النظام السوري من مدينة تل رفعت في ريف حلب الشمالي.
تخفي الواجهة الجميلة للتحالف بين فلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان انقساما عميقا وعدم ثقة متبادل ومصالح إقليمية متباينة
بعد تطبيع العلاقات على إثر قيام تركيا بإسقاط لطائرة سو-24 روسية في الأجواء السورية، التزمت أنقرة بشراء الأنظمة الدفاعية الجوية والمضادة للصواريخ أس-400 روسية الصنع وفتحت محادثات لشراء معدات جوية أخرى من موسكو. وازدهرت التجارة والسياحة وأمضت روسيا صفقة بقيمة 22 مليار دولار لبناء أول منشأة طاقة نووية في تركيا.
وسمح الجيش الروسي للجنود الأتراك باجتياز الحدود إلى داخل شمال غرب سوريا في عملية توغل من المفترض أن تأتي بمكاسب سياسية داخلية للرئيس رجب طيب أردوغان (زيادة في شعبيته وخاصة في صفوف الناخبين القوميين قبيل الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في 24 يونيو) بدلا من كسب أهداف غير واضحة في السياسة الخارجية (قطع حزام كردي ناشئ يمتد من شمال العراق إلى حدود تركيا الجنوبية الغربية مع سوريا).
انقسام بين الغرب وروسيا
عدد قليل جدا من الأتراك يعرفون أن تمثالا في قلب اسطنبول (ساحة تقسيم) يصور أتاتورك مؤسس تركيا المعاصرة، مع قائدين من قيادييه في حرب التحرير، وهما عصمت اينونو وفوزي جاكماق، يصور أيضا جنرالين عسكريين سوفياتيين هما ميخائيل فرونزي وكليمنت فوروشيلوف. هذان الأخيرين يحييان ذكرى المساعدة الروسية (في شكل ذهب وأسلحة) خلال حرب الاستقلال التركية (1919-1923) التي استخدم فيها أتاتورك خطابا معاديا للامبريالية والرأسمالية، وخطابا مساندا للسوفييت وبنا علاقات اقتصادية قوية مع موسكو. اختار أتاتورك أن يطور علاقات تبادلية مع السوفييت لكنه رأى الغرب على أنه شريك استراتيجي لتركيا.
وبعد مرور ثمانية عقود، نرى الزعماء الإسلاميين لتركيا يقتفون خطى أتاتورك عندما تعلق الأمر بعلاقات تركيا مع عدوها التاريخي، روسيا. ويوضح براق بكديل أن روسيا بالنسبة إلى أردوغان ليست مجرد شريك تجاري قوي والمزود الأول للطاقة في تركيا، بل هي أيضا الأرضية الشرقية لحركاته البهلوانية السياسية مع العالم الغربي.
ومع كل ذلك، الأيديولوجيا، التي كثيرا ما تكون الحافز الرئيس خلف حسابات أردوغان في السياسة الخارجية، من المحتمل أن تلحق ضررا بالبراغماتية المتبادلة. وقد يساعد إلقاء نظرة سريعة على تاريخ القرن العشرين للإسلام السياسي التركي على فهم خطوط الصدع الكبرى بين موسكو وأنقرة.
براق بكديل: بالنسبة إلى الروس تركيا ليست حليفا بل هي شريك تكتيكي
في أبريل من سنة 1946 وصلت السفينة الحربية ‘ميسوري’ إلى مضيق الدردنيل في حركة رمزية ضد اعتداء سوفييتي محتمل على المضايق التركية. وقامت ثلاثة مراكب عسكرية تركية (اليفوز والسلطان هيسار ودميرهيسار) باستقبال سفينة ميسوري الأميركية واصطحبتها إلى البوسفور حيث رست. ودعما للحضور العسكري الأميركي الرمزي (ومعارضة لحضور روسي محتمل) رفع مسجد ‘بزم عالم والده سلطان’ الواقع على ساحل البوسفور راية كبيرة بين صومعتين من صوامعه ترحب بسفينة يو اس اس ميسوري. كانت تلك أول راية سياسية رفعها مسجد على الإطلاق وأشار ذلك الى تعاطف المسلمين الأتراك مع أميركا وكرههم لروسيا السوفييتية.
وفي أبريل من سنة 1969 وصل الأسطول السادس الأميركي إلى اسطنبول بالرغم من أيام من الاحتجاجات من قبل الطلبة الأتراك اليساريين. ومرة أخرى انحيازا إلى الأميركيين ضد “الشيوعيين الكفار”، نظم الإسلاميون الأتراك فرقا مسلحة وهاجموا المحتجين اليساريين المعادين للأميركين. وأسفر ذلك عن مقتل طالبين وجرح عدة طلبة آخرين جروحا خطيرة، وكان أحد أعضاء لجنة تولت إعداد المهاجمين الإسلاميين هو عبد الله غول الذي كان حليفا سياسيا لأردوغان وكوّن معه حزب العدالة والتنمية في سنة 2001.
دخول تركيا الميدان السوري
من الناحية النظرية، لم تعد روسيا أرض الشيوعيين الكفار، وتركيا في عهد أردوغان تتعاون مع روسيا في المسألة السورية، لكن استغرق الأمر من الرئيس التركي عدة سنوات ليفهم أن اللعب في الميدان السوري لم يكن ممكنا إلا إذا تحالفت أنقرة مع موسكو، وليس العكس.
في يوليو 2012 قال أردوغان “لدينا توافق مع روسيا حول سوريا”. وبعد ثمانية وثلاثين شهرا تدخلت روسيا عسكريا في سوريا وبطريقة لا تجعل الأتراك سعداء. وفي ديسمبر من سنة 2014 قال أردوغان “لدينا توافق مع روسيا بخصوص حل في سوريا”. وفي يوليو 2015 قال “موقف روسيا حول سوريا أكثر إيجابية من ذي قبل… أعتقد أن روسيا يمكن أن تتخلى عن موقفها بخصوص الأسد”. وبعد ثلاثة أشهر لقي الأسد استقبال حارا على السجاد الأحمر في موسكو.
كان أردوغان دائما في قطيعة مع الحقائق الإقليمية عندما يتعلق الأمر بروسيا. في سنة 2015 قال “روسيا لا تحد سوريا. لماذا هي مهتمة كل هذا الاهتمام بسوريا؟ أريد أن أفهم ذلك. سأطلب منهم مراجعة ذلك”. بيد أن الروس لم يقوموا أبدا بهذه “المراجعة”، بل زادوا في حضورهم العسكري والسياسي في سوريا. والضربات الجوية التركية من الأجواء السورية في إطار عملية غصن الزيتون لم تكن ممكنة إلا بمباركة روسية. وعلى الصعيد العالمي لا يكل أردوغان في قولته الشهيرة “العالم أكبر من خمسة” من الدعوة إلى وجوب إعادة هيكلة مجلس الأمن الدولي الدائم على أساس دوري. وبوتين لا يمكنه أن يأخذ هذا المقترح بجدية كبيرة.
صفقة اس 400
إن المصالح التركية والروسية المتضاربة حول سوريا وعلى الأرض حول إيران ستترك العلاقات الثنائية الروسية التركية رهينة لتفاهمات القوى في هذا المكان من العالم. وهناك أيضا مشكل انعدام الثقة. فبالنسبة إلى صانعي السياسات الأتراك تبقى موسكو خصما محتملا برهن على استخدامه اليد الغليظة عند الحاجة (على سبيل المثال العقوبات الاقتصادية التأديبية على إثر حادثة إسقاط طائرة سو-24). وبالنسبة إلى الروس تركيا ليست حليفا بل هي شريك تكتيكي طالما استمرت في انحياز سياستها الإقليمية وعلى النطاق الأوسع مع المصالح الروسية.
وإحدى إشارات عدم الثقة مخفية في بنود الجهود التركية الخاصة بالدفاع الجوي الأوروبي ومنظومة أس-400. ففي إحدى الصفقات تعمل الصناعة العسكرية التركية على برنامج من أجل الإنتاج المشترك للهندسة الطويلة المدى المستقبلية (مع يوروسام الفرنسية- الايطالية). والصفقة الأخرى تتمثل في البيع الجاهز لزبون يرفض الروس أن يتقاسم معه حتى الأجزاء الصغيرة جدا من تكنولوجيا الصواريخ. وعلى الرغم من تحذيرات منظمة حلف الشمال الأطلسي والولايات المتحدة، لكن تركيا بادرت في شراء هذه المنظومة في وقت سعت فيه إلى تطوير علاقتها روسيا بأي ثمن.
العرب