أثبتت الأحداث التي شهدتها الحدود الشرقية لقطاع غزة ضمن فعاليات «مليونية القدس» الجمعة الماضية أن التعويل الإسرائيلي على انحسار المشاركات الجماهيرية بفعل مرور الوقت واستخدام القوة المفرطة ضد المتظاهرين السلميين، باء بالفشل، بوصول حشود كبيرة لمناطق «مخيمات العودة» في أجواء الصيام مرتفعة الحرارة، والدخول في مواجهات مع جنود الوحدات الخاصة الإسرائيلية وفرق القناصة.
ولم يأبه المشاركون الذين لبوا نداء اللجنة العليا لمسيرات العودة وكسر الحصار، للتهديدات الإسرائيلية التي استبقت وصولهم بساعات قليلة، من خلال إطلاق كتل نارية عبر طائرات مسيرة على خيام العودة، محدثة حرائق في تلك الأماكن الحدودية، كما لم ترعبهم المنشورات التي ألقيت عليهم من الجو، تحذرهم بتعريض حياتهم للخطر حال وصلوا الحدود الفاصلة.
ولوحظ ارتفاع كبير في أعداد المشاركين في فعاليات «مليونية القدس» التي جاءت في الذكرى 51 لـ «نكسة فلسطين» خصص لها يوم الجمعة الأخير من رمضان وهو «يوم القدس العالمي» حيث وصل عشرات الآلاف من سكان غزة إلى «مخيمات العودة الخمس» منذ ساعات الصباح، وأدوا هناك صلاة الظهر، ومن ثم انخرطوا في مواجهات شعبية حامية الوطيس مع جنود الاحتلال الإسرائيلي.
إسرائيل التي أربكها مشهد التحشيد الذي استبق المسيرة، كانت تعلم جيدا أن المليونية التي حملت اسم القدس العاصمة، التي تتعرض حاليا لهجمة ممنهجة من حكومة إسرائيل والإدارة الأمريكية، ستعيد الزحم الجماهيري للمواجهات الشعبية التي انطلقت على طول حدود غزة يوم 30 اذار/مارس الماضي، بعد أن خف أداء الفعاليات الجماهيرية بداية شهر رمضان، بشكل أقل نسبيا مما كان عليه الوضع في أيام الجمع الماضية. ومن أجل ذلك دفعت قوات الاحتلال بمزيد من التعزيزات العسكرية على طول الحدود مع غزة، خاصة وأن المليونية جاءت بعد موجة تصعيد عسكري دامت ليوم واحد فقط.
وتصاعد الانتشار العسكري على حدود غزة قبل «مليونية القدس» بثلاثة أيام، واستمر حتى صباح الجمعة، الدفع بأعداد إضافية من جنود الوحدات الخاصة من ثلاثة ألوية عسكرية، وكذلك الدفع بجنود من وحدات القنص، ونشر منظومة «القبة الحديدية» المضادة لصواريخ المقاومة، خشية من انهيار الأوضاع الأمنية على طول جبهات الحدود، ووصول الأمر لحد مواجهة عسكرية ولو محدودة، خاصة بعد إنذار قادة الفصائل لحكومة إسرائيل من مغبة التغول على المتظاهرين العزل.
ولم تمنع تلك الحشود الشبان المشاركين في وحدات «الطائرات الورقية الحارقة» من إطلاق العشرات منها في السماء، لتسقط في الجانب الآخر من الحدود، وتحدث حرائق كبيرة في الأحراش والمزارع الإسرائيلية القريبة، وهو شكل من أشكال المقاومة الشعبية الذي حافظ النشطاء على تطويرها، منذ أسبوعين، ما أرهق الحكومة الإسرائيلية وكبدها خسائر مالية كبيرة، وحول حياة المزارعين إلى جحيم، كما لم تمنع تلك الحشود العسكرية المتظاهرين من الوصول إلى مناطق السياج والدخول في مواجهات شعبية.
وقد أسفرت تلك المواجهات عن سقوط أربعة شهداء بنيران الاحتلال، بعد أن تحدى المشاركون جنود القناصة، ووصلوا إلى «نقطة الصفر» مع السياج الفاصل، وهناك رشقوا الجنود بالحجارة.
كما أدت عمليات إطلاق النار من قبل جنود الاحتلال إلى إصابة أكثر من 520 مواطنا بجراح مختلفة، وحالات اختناق جراء استنشاق الغاز المسيل للدموع. وذكرت وزارة الصحة في غزة، أن من بين مصابي «مليونية القدس»، 26 طفلا و14 سيدة، ومن بين الإصابات ثمانية خطيرة، كان من بينها 10 إصابات في الرقبة والرأس، في وقت استمرت إسرائيل في استهداف الطواقم الطبية والصحافية، ما أدى إلى إصابة خمسة صحافيين.
وذكرت أن حصيلة اعتداء الاحتلال منذ انطلاق «مسيرة العودة الكبرى» في 30 اذار/مارس بلغ 127 شهيدا، و14700 إصابة بحالات مختلفة، إضافة إلى وجود خمسة شهداء ما زال يحتجزهم الاحتلال.
وأثبتت «مليونية القدس» بأحداثها التي استمرت حتى آذان المغرب، أن قادم الأيام، خاصة بعد انتهاء شهر رمضان، يحمل مفاجآت كثيرة لإسرائيل، إذا لم تخضع لمطالب السكان الغزيين، وتنهي الحصار المفروض عليهم بشكل كامل منذ أكثر من 11 عاما، وهو طلب أساسي وضعته اللجنة العليا المشرفة على المسيرة. ودعت الهيئة الوطنية العليا لمسيرة العودة إلى اعتبار يوم الجمعة المقبل 15 حزيران/يونيو الجاري، الذي يصادف أول أيام عيد الفطر «يوما للتراحم والمواساة وزيارة بيوت الشهداء والجرحى».
كما دعت في مؤتمر صحافي إلى إقامة صلاة العيد في مخيمات العودة الخمسة شرقي قطاع غزة، في رسالة تحد جديدة لإسرائيل، تؤكد على استمرار الفعاليات الشعبية حتى في يوم العيد.
وقالت الهيئة إن مسيرات العودة للجمعة الـ11 على التوالي «تسجل مزيدا من الإنجازات رغم أنف العدو الإسرائيلي» وأكدت على استمرار الفعاليات السلمية التي جاءت للدفاع عن حق الشعب الفلسطيني بالعودة ورفض مخططات تصفية القضية الفلسطينية، وحملت الاحتلال ودول العالم المسؤولية عن استمرار الحصار على قطاع غزة.
وطالبت في الوقت ذاته توسيع نطاق هذه الفعاليات لتشمل كل مناطق الضفة الغربية والقدس المحتلتين والمناطق المحتلة عام 1948، مشيدة في بدور حركات المقاطعة والمتظاهرين المساندين للحق الفلسطيني، وطالبت كذلك بوقف كل أشكال الصراع داخل الأمة العربية، مشيرة إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية تستدعي هذه الصراعات لـ «إشغال الأمة عن عدوها المركزي» كما حذرت من محاولات تصفية القضية الفلسطينية وتمرير «صفقة القرن».
واعتبرت حركة حماس، أن هذه المليونية أثبتت مرة أخرى أن القدس هي «جوهر الصراع مع المحتل» وأن مصير المدينة يكتبه الثائرون، وليس قلم الرئيس الأمريكي ترامب.
وكان رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية، قال إن مسيرة العودة وكسر الحصار أحدثت «نقلات نوعية» على طريق إدارة الصراع مع الاحتلال وعلى طريق التحرير والعودة، وعلى الصعيد الميداني والسياسي والإعلامي والمحلي والإقليمي.
وأكد خلال حفل تكريم عوائل شهداء مسيرة العودة، أن هذه المسيرات هي الخيار الأنسب للشعب الفلسطيني بين الخيارات الصعبة في هذه المرحلة، وأنها أظهرت أن الشعب قادر على المبادرة وشق الطرق الالتفافية حول كل ما يحيط بالقضية من تحديات وصعاب، وشدد على أن مسيرات العودة مستمرة بدون تراجع، داعياً أن تمتد زمانياً وجغرافياً، ودعا إلى المحافظة على طول النفس في مواصلة النضال والمقاومة الشعبية.
وأشار إلى أن مسيرات العودة نتج عنها حراك إقليمي ودولي غير مسبوق لبحث وضع قطاع غزة، وهو ما دفع مجلس الأمن للانعقاد ثلاث مرات خلال فترة وجيزة لبحث ما يجري على حدود قطاع غزة.
كذلك أكد رئيس الهيئة العليا لمسيرات العودة القيادي في حركة الجهاد الإسلامي خالد البطش، على استمرار المسيرات الشعبية السلمية قرب السياج الأمني شرقي قطاع غزة، وشدّد على أن المقاومة الفلسطينية «تحتفظ بحقّ الرد» على أي عمل إسرائيلي قد يستهدف المتظاهرين السلميين.
وقال جميل مزهر عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية، أن مسيرات العودة مستمرة ومتواصلة إلى ان تتحقق أهداف الشعب الفلسطيني بالحرية والعودة، لافتا إلى أن تلك المسيرات أربكت حسابات الاحتلال وجعلته في حالة استنزاف، مؤكدا أنها رافعة حقيقية للتصدي لـ «صفقة القرن».
أشرف الهور
القدس العربي