سبع سنوات على الحرب في سورية، مع نتائج كارثية على المواطن وعلى الاقتصاد. وهنا وجب الحديث عن إعادة إعمار سورية، ويُطرح سؤال أساسي عن ظروف هذه العملية ودور العالم أجمع في إعادة الإعمار. بعد أن أظهرت محصلة الحرب منذ العام 2011، أن المُتضرّر الأول هو المواطن السوري مع مئات الألوف من القتلى، ونزوح أكثر من نصف الشعب السوري، وأكثر من 13 مليوناً في عوز غذائي.
الحقيقة أننا أمام حصيلة كارثية على المواطن السوري الذي يُحاول أن يتخطّى هذه الكارثة بالنزوح داخل وطنه أو إلى بلدان مجاورة أو بعيدة، فالاقتصاد السوري تضرّر أيضاً في شكل كبير، إذ أن الناتج المحلي الإجمالي انهار منذ العام 2011 مع انكماش 25 في المئة في العام 2012 إلى 2013. وفي العام 2014 سجلّ الاقتصاد السوري ركوداً مع بدء تغيّر المعادلات العسكرية ليُعاود في العام 2015 انكماشه بنسبة 10 في المئة. في العام 2016، سيطر الركود على الاقتصاد وكذلك الحال في العام 2017. والمواطن السوري، خصوصاً الموجود في مناطق الاشتباكات، فقدَ كل مقومات الحياة وأخذ يبحث عن مصدر للغذاء مع عدم قدرته على الزرع وتلف المحاصيل بسبب الحرب. لذا نزح الكثير من السوريين داخل وطنهم بحثاً عن مكان آمن ومصدر غذاء.
الحرب طاولت الكثير من المناطق، وأخذ السوريون بالنزوح إلى بلدان مجاورة مثل لبنان وتركيا والأردن. ويُقدّر عدد السوريين الذين هربوا من الحرب إلى الخارج بأكثر من 6 ملايين. وهنا تبرز المُشكلة الأساسية أمام إعادة الإعمار، فعدد سكان سورية قبل الحرب بلغ حدود الـ22 مليون شخص وعدد النازحين أكثر من السُّدس، ما يعني أن سورية ستنقصها حتماً أيدٍ عاملة لإعادة إعمارها، وهذا النقص هائل لا يُمكن تعويضه إلا بعودة النازحين أو بجلب يد عاملة أجنبية، وهذا الخيار الأخير سيكون كارثياً على الشعب السوري الذي لن يستطيع الاستفادة من إعادة الإعمار.
وأكد مركز دمشق للأبحاث والدراسات «مداد»، الحاجة الملحة إلى ما بين 74 و113 بليون دولار لتغطية نحو 38- 58 في المئة من كلفة إعادة الإعمار، استناداً إلى تقديرات حكومية تؤكد أنها تبلغ 195 بليون دولار. وفي حال الاعتماد على التقديرات غير الحكومية التي تصل إلى 250 بليون دولار وسطياً، تنخفض هذه النسبة لتصبح بين 30 و45 في المئة من كلفة إعادة الإعمار. أما مصادر التمويل، فقسمت إلى الموارد الداخلية المتمثلة في الإيرادات العامة للدولة، التي إن عادت إلى مستوياتها قبل اندلاع الأزمة، لتبلغ 22.7 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في العام 2010، فإنها ستسهم بنحو 8- 13 بليون دولار. والاقتراض الداخلي، من خلال طرح الحكومة أذونات وسندات للخزينة للاكتتاب العام، من المقيمين وبالعملة المحلية، تشارك بها المصارف السورية لمصلحتها ولمصلحة الأفراد والشركات، وفي المجمل يتراوح إسهام هذا المصدر في حال اعتماد سيناريو ما قبل الأزمة بين 25 و30 بليون دولار بتمويل إعادة الإعمار. كذلك المصادر الخارجية إذ يمكن للحكومة السورية أن تلجأ إلى الاقتراض الخارجي من خلال طرح سندات للخزينة للاكتتاب العام في الأسواق العالمية وبالعملة الأجنبية، إلا أن نجاح هذا الأمر يتوقف على مدى قناعة المقرضين الخارجيين أو المستثمرين بالقدرات الكامنة للاقتصاد السوري من جهة، ومن جهة أخرى بقدرة الدولة السورية على الوفاء بالتزاماتها المالية، ما سينعكس من خلال عائد أعلى يطلبه هؤلاء المقرضون والمستثمرون كتعويض عن حجم المخاطر المرتفعة التي سيتعرضون لها، نتيجة الاستثمار في أوراق مالية حكومية صادرة عن الدولة السورية، بدلاً من الاستثمار في أوراق مالية صادرة عن دول وحكومات ذات تصنيف ائتماني أفضل.
الحديث عن إعادة إعمار سورية يبقى كلاماً في الهواء إذا لم يتمّ وقف الحرب. وفي حال تمّ هذا الأمر يتوجب على الدولة السورية وضع خطّة اقتصادية ثلاثية المحاور: إعادة الاعتبار للمواطن السوري، عودة النازحين، وإعادة الإعمار. الأولى تمرّ بضمان سلامة المواطن السوري في أرضه. وهذا يعني أماناً جسدياً إضافة إلى تأمين الغذاء لأكثر من 13 مليون سوري في حالة عوز غذائي. هذا الأمر باعتقادنا أساسي، وإذا لم يتمّ كما يجب لن تكون عملية الإعمار ناجحة. كذلك عودة النازحين السوريين إلى بلدهم فهي خطوة رئيسة في إعادة إعمار سورية، لأن هذه الأخيرة في حاجة إلى يد عاملة تتمكّن من تلبية الطلب في السنين الخمس الأولى من إعادة الإعمار. ومن غير المنطقي الاستعانة بيد عاملة أجنبية (بالملايين)، وهناك سوريون يحتاجون إلى العمل. وباعتقادنا، فإن عدم عودة النازحين سيؤخر إعادة الإعمار أكثر من 10 سنوات إضافية.
الواقع أن الخطة الاقتصادية التي يتوجّب وضعها تتمحور حول العوامل الإنتاجية من بنى تحتية وقطاع أوّلي وقطاع ثانوي وخدمات. وتفرض التغيرات التي عصفت بسورية خلال الحرب، أن تأخذ الخطة بعين الاعتبار هذه التحوّلات وعلى رأسها التنظيم المُدني والفرق بين المدينة والريف الذي كان موجوداً قبل الحرب. ويبقى تأمين الحاجات الغذائية في السنين الأولى أساسياً، خصوصاً للأشخاص الأكثر حاجة. ومُشكلة التمويل تُظهر مُشكلة تأمين مبلغ ضخم خصوصاً مع خسائر مادية تفوق الـ300 بليون دولار أميركي. هذا التمويل لا يُمكن للدولة السورية تأمينه، وبالتالي فإنها ستعمد إلى البحث عن مصادر تمويل. وهنا تبرز مُشكلة أخرى إذ إن طريقتي التمويل الوحيدتين هما تمويل الاستثمارات من الموارد الطبيعية، وهذا يعني رهن هذه الموارد وما له من سيئات نذكر منها الاستدانة العالية وإهدار للموارد. والثانية من خلال عائدات المشاريع وهذا يطرح السؤال عن مدى قبول القطاع الخاص بهذا الأمر والذي سيفرض سن قوانين، على رأسها قدسية الملكية والشراكة بين القطاعين العام والخاص. وباعتقادنا تبقى الطريقة الثانية هي الأنسب لسورية حفاظاً على مواردها الطبيعية وعلى حقوق الأجيال المُستقبلية.
يمكن إبرام اتفاقيات للحصول على قروض ميسرة أو تسهيلات ائتمانية مباشرة مع دول صديقة كروسيا، والصين، والهند، أو مؤسسات دولية كالبنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، أو بنك التنمية الجديد المنبثق عن دول مجموعة الـ «بريكس» (روسيا والصين والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا)، أو البنك الدولي وبنك الاستثمار الأوروبي. ولكن المخاوف تتعلق بتكلفة الحصول على هذه القروض والشروط المرتبطة بمنحها.
وتبقى الاستثمارات الأجنبية المباشرة أحد مصادر التمويل المهمّة لعملية إعادة الإعمار ومن المتوقع أن يتراوح إسهام هذه المصادر ما بين 3 و4 بلايين دولار، ومعها أموال السوريين المغتربين التي يعوّل عليها في شكل كبير وجدي للإسهام في إعادة إعمار سورية. إذ تشير التقديرات الرسمية وغير الرسمية إلى أن حجم رؤوس الأموال السورية الموجودة في الخارج التي تراكمت خلال العقود الخمسة الماضية يتراوح ما بين 80 و140 بليون دولار، كما يقدر حجم رؤوس الأموال الهاربة بسبب الأزمة لا سيما إلى دول الجوار، بحوالى 20 بليون دولار.
ويشار إلى أن الحكومة السورية رصدت أخيراً نحو 43 بليون ليرة (نحو 92 مليون دولار)، للخطة الإسعافية لإعادة الإعمار هذه السنة. وتتوجه الخطة لتأسيس مشاريع خدمية وتنموية، مرتبطة بتقديم الخدمات الأساسية للمواطنين من ماء وكهرباء وصحة واتصالات وتعليم وطرق، وإزالة أنقاض في المناطق المهدمة. ووصل عدد المشاريع المعتمدة إلى 493، على أن يُباشر بصرف 5 بلايين ليرة شهرياً اعتباراً من نيسان (أبريل) المقبل.
متى تتم الدعوة لعقد مؤتمر دولي للمانحين تشارك فيه دول ومنظمات عديدة، يهدف إلى تأمين التمويل اللازم لإعادة إعمار ما دمرته الحرب؟ وعلى رغم صعوبة تقدير حجم إسهام هذا المصدر، إلا أنه يمكن افتراض قدرة الاقتصاد السوري بإمكاناته الكامنة على الوصول إلى نسبة اقتراض تتراوح بين 30- 60 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي المحقق قبل الأزمة البالغ 60 بليون دولار كحد أدنى، أي ما يعادل ما بين 18 و36 بليون دولار. هنا يبقى الكلام على الورق وفي الهواء سهلاً، فمتى تبدأ إعادة الإعمار على أرض الواقع؟
نجاح عبدالله سليمان
الحياة اللندنية