في ٢٥ أيار/مايو، خلال “منتدى سان بطرسبورغ الاقتصادي الدولي” السنوي، وقّع ممثلون عن «حكومة إقليم كردستان» وشركة النفط الروسية العملاقة “روسنفت” اتفاقيةً جديدةً لتطوير البنية التحتية للغاز الطبيعي في «إقليم كردستان». واستناداً إلى صفقة سابقة تم التوقيع عليها في المنتدى الذي عُقد العام الماضي، وافقت “روسنفت” على بناء خط أنابيب غاز إلى تركيا يستوعب ٣٠ مليار متر مكعب سنوياً، مما يوسّع بشكلٍ ملحوظ نطاق موسكو في قطاع الطاقة في الشرق الأوسط. وقد أكّد الرئيس فلاديمير بوتين في مؤتمر صحفي يوم ٧ حزيران/يونيو أن العقود مع «حكومة إقليم كردستان» “واعدة” و “واسعة النطاق”.
وكوْن الأكراد ضعفاء جداً ومفككون بحيث لا يتمتعون بالقدر الكافي من النفوذ السياسي للتأثير على العراق، فهم يبحثون عن دولة راعية جديدة نظراً إلى ما يعتبرونه غياب استراتيجية أمريكية متماسكة في الشرق الأوسط. وفي ٩ أيار/مايو، وضع رئيس وزراء «حكومة إقليم كردستان» نيجيرفان بارزاني الحملة الانتخابية العراقية الوشيكة جانباً وغادر إلى موسكو بدعوة من الرئيس التنفيذي لشركة “روسنفت” إيغور سيشين، وهو أحد الزملاء الأقوياء والمقربين من الرئيس بوتين. وسابقاً، في تشرين الثاني/نوفمبر، حذّر رئيس «إقليم كردستان» مسعود بارزاني من أنه “سيعيد النظر جدياً في العلاقة” مع واشنطن، وأنّ الكرملين مستعد تماماً لمساعدته في تنفيذ هذا التحوّل. ومن خلال هذه الخطوة، قد يحاول الرئيس بارزاني إعادة إحياء شراكة تاريخية بلغت ذروتها خلال انتفاضة والده في أربعينيات القرن العشرين.
روسيا والاستفتاء الكردي
وصلت «حكومة إقليم كردستان» حالياً إلى أقصى مستويات ضعفها منذ حرب العراق عام ٢٠٠٣، ويُعزى ذلك إلى حد كبير إلىاستفتاء الاستقلال السيء التوقيت الذي أجري في أيلول/سبتمبر الماضي. وقامت الحكومة العراقية، بتشجيع المعارضة الإقليمية والدولية على إجراء التصويت – الذي كان قد قضى على المبادرة منذ البداية – باستعمال القوة لاسترداد نصف الأراضي وقدرة إنتاج النفط التي اكتسبتها «حكومة إقليم كردستان» منذ بدء هجوم تنظيم «الدولة الإسلامية» عام ٢٠١٤. يشار إلى أن أصدقاء بارزاني التقليديين في الغرب، ومن بينهم واشنطن، قد وقفوا جانباً وسط الخطوة القوية التي أقدمت عليها بغداد.
أمّا روسيا، فقد اتخذت موقفاً أكثر دقةً من الاستفتاء، وذكرت في ذلك الوقت أنها “تحترم التطلعات الوطنية للأكراد” وترى أن النزاعات بين بغداد وأربيل “يمكن، ويتعيّن حلها من خلال إجراء حوار بنّاء قائم على الاحترام يهدف إلى التوصل إلى صيغة تعايش داخل دولة عراقية واحدة يقبلها الطرفان”. وعلى الرغم من أن واشنطن قدمت تصاريح مماثلة جداً، إلا أنها حشدت أيضاً معارضة قوية ضد الاستفتاء، في حين ظلت موسكو محايدةً بشكل علني. وقد عمل هذا النهج الذي اتبعته روسيا لصالحها، إذ منحها قدراً أكبر من المرونة مع الأكراد في الظروف المتوترة التي أعقبت التصويت.
عودة موسكو إلى العراق وكردستان
في عام ٢٠٠٣، ألغت الحكومة العراقية الجديدة العديد من عقود الطاقة الرئيسية التي سبق توقيعها مع موسكو في ظل نظام صدام حسين، لكن الشركات الروسية كانت تعمل على ترتيب عقود جديدة منذ ذلك الحين. ونتيجة لذلك دخلت كل من شركة “لوك أويل” و”غازبروم نفط” سوق الطاقة في «إقليم كردستان» عام ٢٠١٢، وكسبتا بعد ذلك عدداً من العقود لتطوير حقول النفط إلى جانب مشاريع أخرى، مما دفع بارزاني إلى زيارة موسكو للمرة الأولى بعد ذلك بوقت قصير.
وفي وقت لاحق، بدأت الشركات الأمريكية مثل “إكسون موبيل” و”شيفرون” بتقليص مساهمتها في قطاع النفط والغاز في «إقليم كردستان» في عام ٢٠١٥ نظراً إلى المخاوف الأمنية من تنظيم «الدولة الإسلامية»، فضلاً عن الصعوبات الجيولوجية والتعاقدية. ولملء هذا الفراغ، دعت «حكومة إقليم كردستان» المزيد من الشركات الروسية – التي، بفضل تدخّل الدولة المكثّف، هي أقل رهناً بالمخاطر السياسية والاقتصادية من الشركات الغربية. ومن هذا المنطلق، وقعت “روسنفت” عقود نفط مع كل من الحكومة العراقية و«حكومة إقليم كردستان»، على الرغم من كونها تخضع للعقوبات الغربية منذ غزو روسيا لأوكرانيا.
ومن منظور اقتصادي بحت، يبدو قرار موسكو غير منطقي، إلى أن نأخذ بعين الاعتبار أن الرئيس بوتين ينظر إلى صفقات الطاقة بشكل أساسي كأداة للسياسة الخارجية. فمنذ شباط/فبراير ٢٠١٧، قدّمت “روسنفت” قرضاً لأكراد العراق يبلغ حوالي 3.5 مليار دولار ووقّعت عقوداً لتطوير خمسة مجمّعات لإنتاج النفط، كما استثمرت في البنية التحتية لتصدير النفط والغاز في «إقليم كردستان». علاوةً على ذلك، تعمل حالياً شركة “غازبروم نفط” على تطوير ثلاثة مجمّعات نفطية. ومن شأن مثل هذه الإمكانية الواسعة للوصول إلى الطاقة أن يمنح موسكو على الأقل بعض النفوذ على سياسات «حكومة إقليم كردستان»، وربما أيضاً على صعيد الشؤون الإقليمية الأوسع نطاقاً.
ومع تمحور موسكو كما يبدو من بغداد إلى أربيل، تجدر الإشارة إلى أن علاقتها مع الأكراد تعود إلى حوالي مائتي عام. فقد أدركت روسيا أهمية الأكراد منذ عهد الامبراطورة كاثرين العظيمة وبدأت تتصرف كراعية لهم منذ ذلك الحين – بينما استغلتهم بشكل متهكم لتحقيق غاياتها الخاصة. ويتجسد هذا النمط مجدداً على ما يبدو مع الرئيس بوتين.
سياسة خطوط الأنابيب
تمهيداً للسيادة الكاملة، استخدم قادة «حكومة إقليم كردستان» قطاع النفط والغاز لتعزيز مسيرتهم نحو اقتصاد مستقل. ولكنّهم تعرّضوا لأزمة مالية حادة خلال هذه العملية، بعد أن تكدّست الديون المستحقّة من عدد كبير من شركات النفط والدائنين. وفي آب/أغسطس ٢٠١٧، تدخّلت شركة “روسنفت” وساعدتهم على تسوية أحد الخلافات الرئيسية، وهي قضية تحكيم دولية مع الشركة الإماراتية/العراقية “دانة غاز” التي كلّفت «حكومة إقليم كردستان» مليار دولار وكان من المفترض أن تكلّفهم مليارات أخرى.
علاوةً على ذلك، تتمتّع “روسنفت” حالياً بحصّة الأسد في مجال تصدير النفط الخاص بـ «حكومة إقليم كردستان»، وقد وعدت ببناء خط أنابيب غاز إلى تركيا. وقد يسمح ذلك لموسكو بإقحام نفسها وإقامة علاقات في مجال الطاقة مع «حكومة إقليم كردستان» وأنقرة، مما يعزّز مكانة روسيا الجيوستراتيجية في المنطقة الأوسع. وأصبح الكرملين الآن يتفوق على جهود تركيا الرامية لأن تصبح مركزاً للطاقة، مما يعيق فعلياً إمكاناتها كبديل للاحتكار الروسي لأسواق الطاقة الأوروبية.
ويعارض المسؤولون العراقيون الحق القانوني لـ «حكومة إقليم كردستان» في تصدير النفط، ولكنّ خيارات التصدير الخاصة ببغداد لحقول النفط الشمالية الضخمة محدودة: فعليها إما استخدام خط أنابيب «حكومة إقليم كردستان» أو تجديد خط كركوك الذي تعطّل إثر عمليات التخريب التي قام بها تنظيم «الدولة الإسلامية». وبعد أن أصبحت حصّة “روسنفت” الآن ٦٠ في المائة في خط «حكومة إقليم كردستان»، فقد تتمكّن من مساعدة الأكراد على ردع بغداد عن الخيار الثاني، الأمر الذي يتطلّب قدراً كبيراً من الوقت والمال. وبذلك، قد ينقذ بارزاني إرثه الرئيسي، ألا وهو قطاع الطاقة الناشئ في «إقليم كردستان»، من التنازل الكامل للحكومة المركزية.
ومن خلال التعامل مع موسكو، يبدو أنّ الأكراد يستقون الأفكار من القوى المجاورة. وتأتي “روسنفت” في الطليعة من حيث توسيع البصمة الروسية في المشهد الإقليمي الأوسع للطاقة، مع النظر إلى إيران والجزائر ومصر كشركاء محتملين. كما أنّ عقد الصفقات مع روسيا يساعد «حكومة إقليم كردستان» على تنويع علاقاتها الخارجية للتعويض عن المصلحة الضائعة في واشنطن وأنقرة. علاوةً على ذلك، من المتوقع أن يتضاءل الوجود الكردي في الحكومة العراقية حالما يستقر الوضع في أعقاب انتخابات ١٢ أيار/مايو، لكي تتمكّن موسكو من مساعدة «حكومة إقليم كردستان» على استعادة بعض النفوذ في بغداد.
مخاطر التمحور مع روسيا
لطالما كانت الولايات المتحدة وتركيا راعيتان أساسيتان لـ «حكومة إقليم كردستان». فقد اعتمد الأكراد العراقيون على المساعدات العسكرية والمساعدات المالية الأمريكية الممنوحة لقوات البيشمركة للحفاظ على الأمن، بينما اعتمد اقتصادهم على تركيا لمساعدتهم في تصدير النفط رغم اعتراضات بغداد. وعلى الرغم من أن روسيا أمّنت لنفسها مقعداً على الطاولة، إلا أن فائدتها لأهداف «حكومة إقليم كردستان» لم يتم اختبارها بعد.
في السنوات الأخيرة، استثمر «إقليم كردستان» العراق استراتيجياً قطاع النفط والغاز لجذب الدول القوية كضمانة ضد بغداد. وبالتالي، فإن دوافعه في التمحور مع روسيا ليست بالمفاجئة – فحلفاء أمريكا الآخرون، ومن بينهم إسرائيل، وجدوا أنفسهم يلجؤون إلى موسكو لطلب المساعدة في مختلف المشاكل الإقليمية في الآونة الأخيرة. ومع انشغال الولايات المتحدة بالاتفاق النووي الإيراني المنهار، والحرب السورية، والمفاوضات مع كوريا الشمالية، شعرت «حكومة إقليم كردستان» بالحاجة إلى الانخراط مع روسيا التي تزداد حزماً.
لكن على أربيل أن تتوخى الحذر في اختيارها للشراكات على المدى الطويل. فلطالما استخدمت روسيا الأكراد لتحقيق مآربها الخاصة، وليس من أجل دعم فعلي لقضية استقلالهم (ويعود ذلك جزئياً لأن هذه القضية يمكن أن تشكل سابقةً خطيرة للأقليات الأخرى في حقبة ما بعد الاتحاد السوفيتي). وفي هذا الصدد، تجدر الإشارة إلى أن موسكو سمحت لتركيا بمهاجمة القوات الكردية في سوريا وطردها من عفرين. أما في العراق، فقد تستخدم شركات الطاقة الروسية عملياتها في «إقليم كردستان» كورقة ضغط مؤقتة لانتزاع شروط تعاقدية أفضل من بغداد. كما أن احتضان الشركات الروسية الخاضعة للعقوبات الدولية يتعارض مع تطلعات الناخبين الأكراد، الذين دعوا إلى [تحقيق] الحكم الرشيد والإصلاح الاقتصادي. وعلى نطاق أوسع، لا تحترم موسكو، على عكس الولايات المتحدة، سيادة القانون وحقوق الإنسان. لذلك فإن رعايتها قد تكون خبراً سيئاً للشعب الكردي.
وقد لا يعتبر بعض المسؤولين في واشنطن أنّ التقارب مع «حكومة إقليم كردستان» أمراً ملحاً حالياً مع انحسار القتال ضد تنظيم «الدولة الإسلامية»، لا سيّما إذا أخذنا في عين الاعتبار قرار أربيل بتجاهل التحذيرات الأمريكية حول الاستفتاء. ومع ذلك، على هؤلاء المسؤولين أن يدركوا أنه ما دام الدور المستقبلي للولايات المتحدة في الشرق الأوسط غير واضح، فإن المزيد من الجهات الفاعلة المحلية سوف تنظر إلى روسيا باعتبارها البديل الرئيسي الذي سيضمن بقاءها، مما قد يلحق ضرراً بالغاً بمصالح الولايات المتحدة على المدى الطويل.
آنا بورشفسكايا و بلال وهاب
معهد واشنطن