في الوقت الذي تتهيّأ فيه إدارة ترامب لتشديد العقوبات على مختلف الجهات الإيرانية في أعقاب انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي، هناك قوّتان ستؤديان إلى إضعاف أثر أي إجراءات مالية، بينما تتواجد قوتان أخريان ستساهمان بتعزيز هذه الإجراءات. ومن الناحية السلبية، يتمتع الإيرانيون بخبرة كبيرة في التعامل مع العقوبات، وأصبحوا ماهرين في إيجاد حلولٍ جديدة عندما لا يجدون سبيلاً إلى الحلول القديمة. وتُشير التصريحات العلنية للقادة الإيرانيين إلى أنهم واثقون تماماً من أن الإجراءات الأمريكية الجديدة ستكون مصدر إزعاج وليس أكثر من ذلك. وتواجه واشنطن التحدي المتمثل في إقناعهم بأن العقوبات ستفوق ما هو متوقَّع، وستزداد بمرور الوقت.
وتواجه العقوبات أيضاً رياحاً معاكسة من نوعٍ ثانٍ، إذ تتمتع إيران بخبرة طويلة في التعاطي مع التقلبات الهائلة في دخل صادرات النفط. فقد تسببت العقوبات الحادة عام 2012 في انخفاض هذا الدخل من 118 مليار دولار في السنة الإيرانية 2011/2012 إلى 63 مليار دولار في العام التالي. وعندما هبطت أسعار النفط في عام 2015/2016، انخفضت صادرات إيران من النفط مرة أخرى، من 55 مليار دولار إلى 27 مليار دولار، رغم دخول «خطة العمل الشاملة المشتركة» حيّز التنفيذ. حتى أن إيران تعايشت مع مستويات منخفضة أكثر من عائدات النفط: ففي عام 2001/2002، عندما كانت تسعى بنشاط إلى [تطوير] برنامج للأسلحة النووية وتُخفيقدرتها على التخصيب، لم تبلغ قيمة صادراتها سوى 19 مليار دولار. وبالتالي، حتى لو انخفضت إيرادات صادراتها في عام 2018/2019 بنسبة 20 في المائة عن توقعات “صندوق النقد الدولي” البالغة 78 مليار دولار (استناداً إلى توقع بلوغ الصادرات 3 ملايين برميل في اليوم)، فستبقى نسبة هذه العائدات ثلاثة أضعاف ما بلغته في عام 2001/2002. بالإضافة إلى ذلك، مع «سخونة الاقتصاد» العالمي وانهيار فنزويلا عملاقة النفط، قد تكون الأسعار قوية بما يكفي للتعويض عن أي انخفاض كبير في حجم الصادرات الإيرانية المرتبط بالعقوبات. فمنذ كانون الثاني/يناير، كانت طهران تبيع نفطها الخام الثقيل بمعدّل 64 دولاراً للبرميل الواحد، مقارنة بمتوسط 51 دولاراً عام 2017؛ وهذا يعني أن نسبة عائداتها ستكون ثابتة حتى لو انخفض حجم الصادرات بنسبة 20 في المائة.
إلا أنّ عاملين آخرين سيعززان أثر العقوبات الأمريكية. أولاً، تعاني العديد من الشركات والمؤسسات المالية الدولية من الأزمات الاقتصادية غير المتوقَّعة والقواعد الصارمة خلال العقد الماضي، ورداً على ذلك اعتمدت سياسات أكثر شمولاً “لإزالة المخاطر”. إن الكيفية التي تُقيّم فيها الشركات الفردية ممارسة الأعمال التجارية في اختصاصات قضائية عالية المخاطر هي أكثر أهمية مما إذا كانت الحكومات الأجنبية مستعدة للتعاون مع العقوبات الأمريكية، لأن الشركات هي من تنفّذ فعليّاً النشاط الاقتصادي. وسبق أن أعلنت شركات أوروبية كبرى مثل “توتال” و”ميرسك” عن ابتعادها عن السوق الإيرانية في الأسابيع الأخيرة، مما أظهر أن وزراء خارجية بريطانيا وفرنسا وألمانيا والاتحاد الأوروبي كانوا على حق في كتابهم الموجّه في 4 حزيران/يونيو إلى وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو ووزير الخزانة الأمريكي ستيفن منوشين، حيث أشاروا إلى أن: “العقوبات الثانوية الأمريكية قد تمنع الاتحاد الأوروبي من مواصلة تخفيف العقوبات المجدية على إيران”. وفي 6 حزيران/يونيو، قامت “المفوضية الأوروبية” بتحديث “قانون حجب إجراءات الحظر الأمريكية” لمنع شركات الاتحاد الأوروبي من الامتثال للعقوبات الأمريكية، لكن من المرجح أن تتفادى الشركات الفردية التعامل مع إيران أكثر من تنفيذ هذا الإجراء الوقائي.
ثانياً، كما هو موضح في القسم التالي، تشكّل المعاملات المالية نقطة ضعف النظام الإيراني الأكثر هشاشةً. وهذا أيضاً القطاع نفسه الذي تميل العقوبات الأمريكية إلى استهدافه في أغلب الأحيان لتحقيق الفعالية الأكبر، كما سيتم تناوله بالتفصيل في الجزء الثاني من هذا “المرصد السياسي”.
النظام المصرفي الهش في إيران
تتجاوز المشاكل المصرفية في الجمهورية الإسلامية مخاوف “فرقة العمل المعنية بالإجراءات المالية” التي كثيراً ما ذُكِرت بشأن تبييض الأموال وتمويل الإرهاب. على سبيل المثال، تلتزم قلّةٌ من المصارف الإيرانية بالمعايير الدولية الخاصة بمنع تجنب الضرائب من قبل المودعين الأجانب. لذلك، قد تتلقى أي مصارف دولية تتعامل مع مؤسسات إيرانية غير ملتزمة أمراً بدفع ضريبة الدخل الأمريكية المستحقة على المودعين. كما تقرّ المصارف الإيرانية بأنها لا تلبّي “نسبة الدنيا للكفاية الرأسمالية” البالغة 8% (بالإضافة إلى احتياطي قدره 2.5%) التي تتطلبها اتفاقية “بازل 3″، مما يُلزم أي مصارف أجنبية تتعامل معها باتخاذ احتياطات مشددة.
والأسوأ من ذلك، لا يتّضح تماماً نطاق هذه المشاكل لأن معظم المصارف الإيرانية تفتقر إلى الشفافية بشأن وضعها المالي. فلم تُلبّ إلا قلة قليلة من الشركات الخاصة متطلبات “البنك المركزي الإيراني” لعام 2016 حول التصريح عن حساباتها وفقاً للنسخة المحلية من “المعايير الدولية لإعداد التقارير المالية” – وهي نسخة يعتبرها حتى المحاسبون الإيرانيون ناقصة. وشهدت المصارف الثلاثة التي التزمت بـ”المعايير الدولية لإعداد التقارير المالية” في عام 2017 تراجعاً في أسعار أسهمها بسرعة كبيرة ، حتى أن “بورصة طهران للأوراق المالية” علّقت التداول في أسهم هذه المصارف لمدة عام. وعندما استؤنف التداول في شهر آذار/مارس، تراجع سعر السهم في المصرف الأكثر تضرراً (“صادرات”) بنسبة 49% في يومٍ واحد، ومنذ ذلك الحين لم تستخدم الشركة “المعايير الدولية لإعداد التقارير المالية”. وفي تقريرٍ صدر في 16 أيار/مايو ونشرته صحيفة “الشرق الأوسط”، تذمّر غولامريزا سلامي من “المعهد الإيراني للمحاسبين القانونيين” من أنّ أصحاب النفوذ الذين يستفيدون من غياب الشفافية هم وراء تأجيل التقيد بـ”المعايير الدولية لإعداد التقارير المالية”. ونقل المقال عن خبراء آخرين قولهم إنّ المصارف تتهرب من [تنفيذ] هذا المطلب لأنّ الامتثال به سيكشف عن عدم امتلاكها لرأس المال الكافي للاستمرار في ممارسة الأعمال التجارية.
ووفقاً لتقرير “صندوق النقد الدولي” في آذار/مارس، ادّعت المصارف الإيرانية إن نسبة كفاية رأسمالها بلغت 4.9% في نهاية حزيران/ يونيو 2017، بعد أن كانت 5.2% في العام السابق – وهو معدّل منخفض بشكل خطير. كما أقرّت هذه المصارف أنّ 11.4% من قروضها متعثرة، رغم أن القواعد الإيرانية لا تشجع على تصنيف القروض على أنها متعثرة؛ فلا يمكن شطبها إلا على مدى عشر سنوات وعندما تبلغ مخصصاتها 100%. ولا يبدو أن المصارف الإيرانية واجهت واقع تدني القيمة السوقية للعديد من استثماراتها وقروضها السكنية إلى ما دون قيمتها الفعلية بسبب ركود أسعار المساكن أو انخفاضها لمدة خمس سنوات (ويأخذ هذا الوضع في التحسن حيث ارتفعت أسعار السكن في المدن الكبرى بنسبة 30% في الأشهر الستة الماضية).
كما أنّ مصارف إيران عالقة بسبب الموارد المالية الهشة للحكومة. فعلى مدى خمسة عشر عاماً، فرض القانون قيوداً صارمة على اقتراض الحكومة المباشر من “البنك المركزي الإيراني”، ولذلك تقترض الحكومة بدلاً من ذلك من المصارف الخاصة، التي تحصل لاحقاً على ائتمان من “البنك المركزي الإيراني”. وما زاد من هذا التعقيد هو قيام مختلف الوكالات بإصدار سندات من دون إذنٍ أو إشرافٍ من وزارة المالية. ووفقاً لتقرير “صندوق النقد الدولي” من آذار/مارس، بلغت متأخرات الدفع الحكومية إلى الموردين وصناديق المعاشات التقاعدية 30% من “الناتج المحلي الإجمالي” (ما يساوي 5.5 تريليون دولار بالنسبة إلى الولايات المتحدة).
وكنتيجة لذلك، يتوجب على الموردين وصناديق المعاشات التقاعدية الاعتماد على القروض المصرفية. ولجمع المزيد من الأموال لهذه القروض، سيتعيّن على “البنك المركزي الإيراني” إقراض المصارف، الأمر الذي يستلزم طباعة المال وربما التسبب بتصاعد التضخم إلى نسبة 30% التي تم بلوغها عندما تولى الرئيس حسن روحاني منصبه للمرة الأولى. والخيار الوحيد الآخر هو أن تجتذب المصارف ودائع جديدة بنفسها. ومع ذلك يحاول “البنك المركزي الإيراني” خفض أسعار الفائدة من خلال فرض نسبة 15% كسقف على الودائع، مما حفز العديد من المودعين على التوجه إلى أسواق الصرف الأجنبي وأسواق الذهب بدلاً من ذلك. وتسبب ذلك في حدوث طفرة في سعر الذهب وسعر الدولار بالريال الإيراني. وفي شباط/فبراير، سمح “البنك المركزي الإيراني” مؤقتاً [دفع] معدل 20% على الودائع لسنة واحدة، ولكن أكثر من 80% من الأموال المودعة مع هذا المعدّل الأعلى كانت تحويلات من حسابات مصرفية قائمة، وليست ودائع جديدة.
ومما يزيد الأمور سوءاً هو أنّ المصارف تواجه منافسةً من “مؤسسات الائتمان” العديدة في إيران – وهي تسمية ملطَّفة لما بدأ كمصارف غير منظمة أنشأتها شخصيات تتمتع بعلاقات سياسية جيدة مثل بعض كبار رجال الدين والنخب المقرّبين جدّاً من «الحرس الثوري الإسلامي» الإيراني. وفي خطابه حول الميزانية في كانون الأول/ديسمبر، صرح الرئيس روحاني بأنّ ستّاً من هذه المؤسسات تسيطر بشكلٍ مدهش على ربع السوق المالي الإيراني. ومن الناحية النظرية، تخضع هذه المؤسسات حالياً لقواعد “البنك المركزي الإيراني”، ولكن هناك مصدر مطّلع واحد على الأقل يقدّر أن 3,500 منها غير منظمة.
ومن رموز هذا الوضع الموقع الإلكتروني الخاص بـ”البنك المركزي الإيراني”، حيث تبرز بوضوح استمارة للإبلاغ عن المؤسسات الائتمانية غير المنظمة. وبالفعل، إن العديد من هذه الجهات هي في الأساس مخططات بونزي [عمليات احتيالية]، تدفع معدلات مرتفعة جدّاً على الودائع، ولكن مع احتمال ضئيل في القدرة على مضاهاة هذه المعدّلات من خلال تقاضي فوائد مماثلة على القروض. ولا تغطي هيئة التأمين على الودائع الناشئة في إيران إلا القليل منها، ولم يسبق أن دفعت فلساً واحداً أو أمرت أي مؤسسة بالإغلاق. وعندما توقّفت ثلاث مؤسسات ائتمانية منظمة كبيرة عن الدفع للمودعين في أواخر العام الماضي، خرج المتظاهرون إلى شوارع طهران ومدن أخرى، مما ساعد في إشعال حركة الاحتجاج الأكبر التي اجتاحت البلاد بعد عدة أسابيع. وفي النهاية، تعيّن على الحكومة و”البنك المركزي الإيراني” أن يتدخلا ويدفعا لـ 98% من المودعين.
هل يعجز روحاني عن معالجة المشاكل المصرفية؟
كان الخلل الوظيفي الموصوف أعلاه معروفاً منذ سنوات – وكما حذّر “صندوق النقد الدولي” بصورة منذرة بالخطر في عام 2015، “إن تعقيد التحديات التي تواجه النظام المصرفي وشدتها يتطلبان اتخاذ إجراءات فورية”. إلا أنّ المأزق السياسي منع إلى حد كبير إمكانية التصرف. وفي خطابه عن الميزانية في كانون الأول/ديسمبر، وصف روحاني الضغوط الناشئة عن المؤسسات الائتمانية المنهارة بالعبارات القوية التالية: “طالت المشاكل حوالي ثلاثة إلى أربعة ملايين عائلة… كان المجتمع في حالة من الفوضى، وكان الشعب بائساً، وملأت المتاعب حياته… وكانت ستة اتحادات ائتمانية منحرفة… تنهب كل يوم العملة والذهب والأسواق العقارية”. ومع ذلك لم تتخذ الحكومة سوى القليل من الخطوات لإصلاح المؤسسات الائتمانية والمصارف، على الرغم من سنواتٍ من النقاش حول تنفيذ بعض التدابير مثل قانون جديد خاص بـ”البنك المركزي الإيراني”.
إنّ المشاكل المصرفية في إيران قابلة للحل: فهي لا تقاس بتلك التي عانت منها العديد من الدول الأوروبية خلال العقد الماضي (إذ لا تشكّل إلا جزءاً بسيطاً مما واجهته قبرص وإيسلندا، وهي أقل بكثير من مشاكل اليونان والبرتغال، ويمكن القول إنها ليست أسوأ من مشاكل إسبانيا وإيطاليا). فعدم قدرة فريق روحاني على معالجة هذه المشاكل أدت إلى الإضرار بالاقتصاد الإيراني أكثر من العقوبات الدولية، ولا توجد مؤشرات على أن هذا الفريق سيحقق نتائج أفضل في المستقبل.
وفي الوقت نفسه، أصبحت المصارف الدولية أكثر تجنباً للمخاطرة بعد سنواتٍ من الركود، وأصبح المنظمون أكثر صرامة. ومع ابتعاد المؤسسات الأجنبية عن المصارف الإيرانية التي تعاني من المشاكل، لجأت العديد من الجهات إلى إجراء معاملات التجارة الدولية نقداً أو عبر وسطاء مشبوهين، مما يولّد تعقيدات، ويرفع التكاليف، ويولّد شكاً عاماً بشأن مصداقية المصارف المحلية.
وعلى خلاف ما كان عليه الوضع عام 2012، تشكّل المصارف، وليس صادرات النفط، أكبر نقطة ضعف اقتصادية للنظام الإيراني. وكلّما تم عزل هذه المصارف عن النظام المالي العالمي، كلّما ستجد صعوبةً أكبر في كسب ثقة الإيرانيين وجمع الأموال التي تحتاجها. فمع تعطّش المصارف لرأس المال، اضطرت الحكومة إلى اتخاذ إجراءات مثيرة للجدل أو التفكير فيها، مثل خفض الإنفاق، وزيادة سعر صرف الريال مقابل الدولار (مما يزيد من كمية الريالات التي تتقاضاها الحكومة من صادرات النفط)، وطباعة المزيد من الأموال. إلا أن كلّاً من هذه الإجراءات يمكن أن يسبب مشاكل سياسية كبيرة في البلاد من خلال تفاقم التضخم، أو تقويض الثقة بالريال، أو إثارة الاستياء بين عامة الناس والنخب ذات الصلة من ناحية أخرى.
باتريك كلاوسون
معهد واشنطن