تمددت إسرائيل حتى بات مجالها الاستراتيجي يتجاوز باكستان والهند وموريتانيا وما بعدهما مرورا بعواصم العرب، تمكنت إسرائيل من المنطقة وباتت شريكاً اقتصادياً وسياسياً وأمنياً، واعترفت لها مؤخرا الإدارة الأميركية بالقدس عاصمة يهودية، تحقق الحلم الصهيوني بإقامة الدولة اليهودية في فلسطين، نفذ ليو موتسكين أحد زعماء الصهيونية وعده عندما قال في العام 1917 إن “فكرتنا هي أن استعمار فلسطين يجب أن يسير في اتجاهين: استيطان يهودي في أرض إسرائيل، وإعادة توطين عرب أرض إسرائيل في أراض خارج البلاد”. وبعد ما يقارب القرن على تصريح موتسكين أعلن نفتالي بنيت وزير التعليم في إسرائيل أن “السنة الدراسية المقبلة ستكون سنة “وحدة القدس”، كما أعلنت تسيبي حطبولي نائبة وزير خارجية الاحتلال “أن سنة 2018 ستكون سنة احتفالية يتم فيها تأكيد رواية وحدة البلاد وحقيقة أنه لا يوجد احتلال”. ولكن ما الذي حدث، هل نجحت إسرائيل في إنهاء الوجود الفلسطيني؟
كتبت صحيفة يديعوت أحرونوت قبل أيام تصف المشهد في الذكرى السبعين للنكبة قائلة: يتوجه كل من إسرائيل وقطاع غزة إلى تصعيد مثل المصير الذي لا مفر منه، ودخل في الحسبان العدد المتوقع للوفيات من بين عشرات الآلاف من الفلسطينيين الذين يستعدون لاقتحام السياج الفاصل وفي ذروة أحداث الاقتحام للسياج، تعتقد إسرائيل أنه حتى لو خرجت التظاهرات عن السيطرة وعبر الفلسطينيون السياج ووصلوا إلى الجانب الإسرائيلي، لن يكون هناك أكثر من 100 شهيد، هذا النوع من المشهد الدموي يبدو مجنونا، هذه الأرقام لا تبدو سخيفة لأولئك الذين تابعوا يوم الجمعة الماضي حيث الاندفاع الجنوني للشبان الفلسطينيين، حتى حماس فقدت سيطرتها عليهم ودخلوا إلى الجانب الفلسطيني من معبر كرم أبو سالم وعاثوا فيه خرابا”. لم تكن هذه التقديرات حاضرة عندما ارتكبت اسرائيل مجازرها يوم النكبة العام 1948.
نجحت إسرائيل في تهجير الفلسطينيين لكنها لم تنجح في ثنيهم عن حقهم وفي حقهم بالمقاومة، استطاعت أن تحتل الأرض لكنها لم تعد قادرة على الاحتفاظ بها، وهي اليوم تترقب وتستعد وتعد السيناريوهات في انتظار الانفجار الفلسطيني المتوقع حدوثه في قطاع غزة بواسطة مسيرات العودة التي تدخل شهرها الثاني مستمرة وبوتيرة متزايدة مستحدثة أدوات قادرة على إرباك إسرائيل بأقل الإمكانيات. حتى بات شهر مايو الحالي وفق كثير من القراءات الإسرائيلية الأخطر على إسرائيل منذ العام 1967.
سبعون عاما مضت والفلسطيني يقارع إسرائيل ومن انتفاضة إلى انتفاضة ومن مواجهة إلى أخرى في حرب استنزاف تدشن الآن بمسيرات العودة التي باتت تشكل معضلة أمنية وسياسية وعسكرية لدى إسرائيل وصلت حد انه بات من المتوقع حدوث تهجير أو ترانسفير معاكس وان الجيل الفلسطيني الذي لم يولد زمن النكبة يعود بعد هذا الزمن ليعود إلى أرضه، كل التوقعات الموضوعية تقول بأن هذه الذكرى للنكبة ستكون مختلفة وتتساءل الأوساط الإسرائيلية ماذا لو قرر آلاف الفلسطينيين اجتياز السياج المحيط بقطاع غزة.
إسرائيل التي ظنت أنها أمنت الجبهة الفلسطينية بإرعابها وطردها وتهويد أرضها وبالتسوية تارة والانسحاب تارة تقف الآن أمام ملحمة فلسطينية جديدة وممتدة تقول إن حق العودة لا يسقط بالتقادم وإن الوجود الفلسطيني مستمر وباق ومتوارث من جيل إلى جيل، إسرائيل التي ظنت أن نقل السفارة والتطبيع وتمرير صفقة القرن والالتفاف على الحقوق والثوابت الفلسطينية تقف اليوم أمام مسيرات العودة وحشودها وتركيبتها وتنوعها، تقف أمام الشعب الفلسطيني الأعزل الذي يقاتل بيديه من أجل حقوقه، تخشى طائراته الورقية وحجارته تخشى دخوله كسيل بشري جارف وهي التي تمتلك برنامجا نوويا هو الأكبر والأخطر والأكثر عددا في رؤوسه النووية في المنطقة.
إسرائيل في ذكرى النكبة وبعد سبعين عاما لم تنجح في إنهاء الوجود الفلسطيني ولم تفلح في إنهاء القضية الفلسطينية ولم تفلح في تمرير روايتها لليهود بأنها بلاد السمن والعسل ولم يلتم شمل يهود الأرض كلهم في فلسطين كما كانت تريد لأن التكلفة مرتفعة ولأنه في مقابل النكبة هناك جبهة غزة وهناك جبهات الدهس وجبهات الطعن وجبهات التصدي في كل شبر من فلسطين. وفي زمن تمددها عربيا تستجدي الفلسطينيين فيكتب الصحفي بن درور يميني، عمودا في صحيفة يديعوت أحرونوت باللغتين العبريّة والعربية موجها إلى جيرانه الفلسطينيين في قطاع غزة (بات الفلسطينيون الآن جيراناً وفق العرف الإسرائيلي وهم الذين طردوا وقتلوا من قبل)، كتب يقول: “نحن نمد يد السلام. الرجاء اقبلوا بها. بدلا من وهم آخر ومسيرة العودة أخرى، التي هي استفزاز وعنف، دعونا نبدأ مسيرة مشتركة للسلام، للمصالحة والاعتراف المتبادل. منذ سبعين عاما تسيرون في هذا الموكب، في الطريق القديمة، مع ذات النتيجة. مزيد من المعاناة. مزيد من الضيق. لذا يجب أن نجرب طريقة جديدة. طريقة فيها الأمل. رجاء، اقبلوا أيادينا الممدودة للسلام”. في الذكرى السبعين للنكبة يبدو الفلسطيني أكثر حضورا وأكثر فعالية وأكثر قوة، كل المؤشرات تذهب إلى أن الزمن الفلسطيني لم يعد في صالح إسرائيل. وأن ما فعلته في النكبة قبل سبعين عاما لم يعد ممكنا ومتاحا الآن وأن عليها أن تتحمل التبعات وتحصد النتائج ومن غزة تقف اليوم العائلات التي هُجرت على الحدود تنتظر العودة كحق كالشمس.
في المقابل، يقف قادة الجيش الإسرائيلي على حدود غزة للبحث عن كيفية مواجهة الطائرات الورقية التي يطلقها المتظاهرون من غزة، تلك الطائرات التي لا تكلف شيئاً باتت بعبعاً يقلق إسرائيل وسكانها بعدما فلتت من النكبة قبل سبعين عاما، إسرائيل لا تعرف اليوم كيف تتعامل مع المسيرات ومع الحشود ومع الطائرات الورقية والإطارات المطاطية ومع الكثافة السكانية التي وصلت في غزة لأكثر من 120 مولودا يومياً، وهي التي ظنت أن القتل والقصف والتهجير والتهويد كفيلان بقلب المعادلة الديموغرافية.
إسرائيل التي تعودت على حل مشكلاتها بمزيد من القوة والعنف والبطش والقصف تقف اليوم عاجزة عن إيجاد حل للفلسطيني الذي قرر أن يعود لأرضه ولبيته، إسرائيل التي امتلكت قبة حديدية متطورة تعجز اليوم عن مواجهة الطائرات الورقية التي يصنعها الفلسطيني اللاجئ في قطاع غزة، إسرائيل التي هزمت الجيوش العربية كلها في حربين واحتلت أرضها تقف عاجزة الآن عن الخروج لحرب شاملة ضد قطاع غزة قطاع اللجوء والهجرة ويكتب الكس فيشمان أن ما يحدث على الحدود جنون وأنه يجب أن يتوقف وان الوضع قد يصل إلى تصعيد كبير وخطير، هذه إسرائيل بعد سبعين عاما على النكبة الفلسطينية. لم تنهِ الوجود الفلسطيني بل باتت تفكر وتخشى تبعات التصعيد ضده.
أنور زين الدين
العربي الجديد