إن إعادة إنتخاب أردوغان رئيسا لتركيا في ظل عملية تنافسية بين قوى سياسية متناقضة يمثل إنتصارا لتجربة ديمقراطية في دولة إسلامية قيادية ومؤثرة. فالديمقراطية التركية على نواقصها تقدم نموذجا لإقليم عربي تتعثر فيه كل الافكار الخاصة بالحقوق والتنمية. إن النظام الديمقراطي والانتخاب للبرلمانات ووجود الأحزاب وتنظيم المجتمع المدني إنعكاس لمدى قوة المجتمع وثقة نخبه بنفسها، وهو إنعكاس لتماسك مؤسساته. هذا يتناقض مع واقع الدول العربية التي تتأخر وتتراجع بسبب غياب الحريات وضعف الأحزاب وسيطرة الفساد وغياب التنمية.
وبينما تستعد تركيا للتحول بصورة واضحة من نظام برلماني لنظام رئاسي، لازالت الحالة العربية مرتبكة حول الإصلاح. الوضع العربي فقد ذاته، وهو يزداد إعتمادا على السياسات الأمريكية المتوترة بينما يحلم في صفقة قرن فاشلة لن تأتي للدول العربية المتورطة فيها إلا بمزيد من عدم الإستقرار. الحالة العربية غارقة في الإستفراد السياسي والخمول بلا أدنى حوار وبلا تفاعل مع المجتمع، اما الحالة التركية فتتعلم من اخطائها وتنتقل بفعالية من نظام عسكري يقوم على سيطرة الجيش والعسكريين لنظام يتحكم به القادة المدنيون و المنتخبون. حتى اللحظة يبقى العالم العربي وكأنه سفينة تائهة وسط رياح عاتية. إن الضعف الذاتي العربي جعل مركز القرار العربي ينتقل لروسيا والولايات المتحدة وكوشنر وترامب وهو ينتقل بنفس الوقت لتركيا وإيران.
نجاح التجربة التركية في ظل ازمات العالم العربي سوف يفعل فعله في العالم العربي. فقد سأم العرب سوء الإدارة وغياب الحقوق وسقوط دولة القانون وسيطرة الأمن والجيوش في ظل إنغلاق النخب على نفسها. بل سأم العرب فوضى الإقتصاد وضعف الإنتاج وإنتشار البطالة وكثافة الفساد. لهذا لن يكون مفاجئا ان تنتشر في العالم العربي سلسلة من الحركات الشعبية و السياسية والتشكيلات النقابية التي تتمحور حول الطبقات الشعبية الفقيرة والطبقة الوسطى المتآكلة. إن غياب القدرة العربية على التعامل مع الفساد والتنمية والحقوق ستستمر بينما ستستمر الحركات الشعبية الناتجة عن فئات غير قادرة على تحمل اعباء المعيشة والأوضاع الاقتصادية السيئة و البطالة. إن الوطن العربي بطوله وعرضه (باستثناء بعض الدول الغنية وقليلة السكان) لا يملك حلولا للمشكلات التي يعاني منها الناس، وهذا يعني ان الناس ستزداد استعدادا لأخذ قضيتها بيدها.
ما وقع في الأردن من حركة احتجاج ليس نهاية الاحتجاج، بل وفق احد التحليلات، يمثل كل هذا بداية لحركات سيكون لها قرين في أكثر من موقع ومكان في العالم العربي. إن محاولة احتواء الحراكات العربية من خلال توزيع أموال الدعم سوف يسهم في التسكين المؤقت. لكن «التسكين» في الحالة العربية سيؤدي لمزيد من التهاب المشكلة. لقد دخل العرب منذ أحداث الأردن في الشهر الماضي في دائرة جديدة من الاحتجاجات، وذلك بسبب غياب المؤسسات التي تستوعب احتياجات السكان وآمالهم. أن الانفجارات القادمة قد تتحول لفيضانات يصعب التحكم بتوجهاتها وآفاقها وآثارها.
إن الديون التي تعاني منها الدول العربية هي مظهر المشكلة وليست السبب الأساسي لها، فهذه الديون بسبب سياسات الإستدانة وبسبب عدم بناء صناعة إنتاجية نجدها مرشحة للتضخم، أما بعض العملات العربية في أكثر من مكان فهي معرضة للهبوط والتراجع. هذا كله مرتبط بفقدان النخب للرؤية والاحساس بمعاناة الطبقات الشعبية، لكنه مرتبط بعجز النظام العربي مواجهة وتقليص الفساد.
ومن الطبيعي أن نتساءل من أين ستأتي الإستثمارات الدولية لبلدان لا تتمتع بالشفافية، بينما أنظمتها السياسية تعاني من ضيق صدر، ولديها طبقات وسطى ضعيفة وحياة ثقافية ساكنة، وإقتصاد تابع يقوم على الديون؟ من أين يأتي الإستثمار في دول لا تحترم دولة القانون، إذ بمقدور السياسي ان يضع يده على اموال الآخرين؟ في ظل اجواء كهذه ستهرب رؤوس الأموال وسيزداد حجم التحدي.
ان المحاولات التي تقوم بها العديد من الدول العربية لاصلاح إقتصادي دون التعرض للإصلاح السياسي وبناء دولة القانون وتحقيق التمثيل السياسي، ستواجه تحديات تفوق كل التوقعات. فالنظام العربي لديه نخب غارقة في التقليدية وهي في الجوهر معادية للإصلاح وبعضها جزء من منظومة الفساد، وهذه النخب لن تسمح للقوى المتنورة (عمر البزاز نموذجا) في الأنظمة العربية بتحقيق إصلاحاتها. فبالرغم وجود قوى مستنيرة في الحكومات العربية وفي قلب النظام الملكي والجمهوري، الا أن هذه القوى محاطة بالقوى القديمة التي سببت المشكلة بالأساس. إن الخوف من الإصلاح في النظام العربي لازال مرتبطا بأثره على هيمنة الفئات المتنفذة التي فشلت في تحقيق أي من طموحات السكان، وهذا الخوف لن يحرك الاقتصاد ولن يجدد المؤسسات ولن يؤدي لنهضة واعدة. لهذا سيبقى الوضع العربي التقليدي طارد للشباب و للابداع وللمعرفة.
ان أخطر ما يقع الآن في الوضع العربي هو رفع الآمال حول الدعم وحل الازمات لأعلى سقف، لكن سيعقب ذلك سقوط الآمال بعد وضوح الحقيقة. إن إنهيار الآمال في الأعوام القادمة سيؤدي لموجة ثورية تتجاوز بمراحل ما وقع في 2011. لهذا ليس من الغريب أن تنجذب الناس في البلدان العربية للنموذج التركي بسبب نجاحه، فهناك عربيا ترحيب شعبي (يقابله ضيق رسمي في أكثر من مكان) بفوز أردوغان رئيسا لتركيا. إن جانبا مما يرمز اليه النموذج التركي تحول لمصدر الهام للعرب، خاصة وأن هذا النموذج يقع في دولة تتقاطع مع الاقليم في مجالات الثقافة والدين والتجربة التاريخية وعدد من الهموم المشتركة. بل والأهم ان لدى تركيا موقفا مستقلا عن مراكز القرار الدولية بينما تعاني الكثير من الدول العربية من التبعية للولايات المتحدة والغرب. العرب تواقون للخلاص من العجز الاقتصادي كما والسياسي والنفسي والمعنوي، وهم في رحلة بحث عن مخرج فعال لمحنتهم، وهذا بحد ذاته سبب من أسباب انجذابهم لنموذج تركي يحيي فيهم الأمل بالنجاح في تحقيق العدالة والتنمية والاستقلال.