دأبت المستويات السياسية والأمنية في إسرائيل أخيراً على تسريب مقترحات بشأن إعادة تأهيل قطاع غزة اقتصادياً، ادّعت أنها بلورتها، إذ تقاطعت هذه المقترحات، مع تصورات أخرى، اعتبرت وسائل إعلام في تل أبيب أنها أُعدّت من قبل الولايات المتحدة ومصر بهدف إحداث تحول على الواقع الاقتصادي والسياسي في القطاع.
فعلى الرغم من أن تحسين الأوضاع الاقتصادية هو الغاية المباشرة لهذه المقترحات، إلا أن درجة تطابق خارطة المصالح المحرّكة لتل أبيب وواشنطن والقاهرة غير مطلقة، مما أفضى إلى تباين أدوات هذه المشاريع وشروطها. فمن ناحية الشروط، أكدت إسرائيل أن “أي تحرك لتحسين الأوضاع الاقتصادية في القطاع يجب أن يكون مرتبطاً بحل قضية الجنود والمستوطنين الإسرائيليين الأسرى لدى حركة حماس. وقد حرصت تل أبيب على التدرج في طرح شروطها. ففي البداية اشترطت أن يكون تنفيذ مشاريع البنى التحتية الهادفة إلى تحسين الأوضاع الاقتصادية في القطاع، في مقابل الإفراج عن الجنود والمستوطنين الأسرى. لكن صنّاع القرار في إسرائيل، كما كشفت قناة التلفزة الإسرائيلية العاشرة ليلة الثلاثاء ـ الأربعاء الماضي، قد تراجعوا وأبلغوا “حماس” عن طريق وسيط دولي أن “تل أبيب مستعدة أيضاً أن تطلق سراح أسرى فلسطينيين لم يُدانوا بقتل جنود أو مستوطنين”.
وعلى صعيد الوسائل المقترحة لتحسين الأوضاع الاقتصادية في القطاع، فإن إسرائيل اقترحت مشاريع تستجيب لمصالحها الأمنية بشكل مباشر. فحسب ما سربته قناة التلفزة الإسرائيلية الثانية مساء الاثنين، فإن “تل أبيب تقترح أن يتم تدشين ميناء بحري على الساحل القبرصيلخدمة متطلبات الأوضاع الاقتصادية والإنسانية في القطاع، على أن يخضع لرقابة جهاز الأمن الإسرائيلي”. وقد أكدت الحكومة القبرصية أمس الأربعاء أنها “تدرس بالفعل مقترحاً إسرائيلياً لتدشين الميناء”.
إلى جانب ذلك، ومن منطلق مراعاة المصالح الأمنية، فإن إسرائيل تقترح تدشين محطة شمسية لتوليد الكهرباء تكون داخل الأراضي الإسرائيلية وقبالة الطرف الشمالي الشرقي من القطاع، حتى يكون بإمكان تل أبيب جباية ثمن من الفلسطينيين ردا على أي مس بالمصالح الأمنية لتل أبيب.
ومن ناحية سياسية، فإن تنفيذ المشاريع الاقتصادية من خلال التوصل لصفقة مع حركة “حماس”، سيفضي إلى تحسين مكانة الحركة السياسية، لأن هناك في تل أبيب من يرى أن وجود حماس كعنوان سلطوي في القطاع، يمكّن إسرائيل من جباية أثمان منها عندما تتطلب الأوضاع الأمنية ذلك، سيما وأن آخر ما يعني حكومة اليمين المتطرف في تل أبيب هو أن تسيطر السلطة الفلسطينية مجدداً على زمام الأمور في السلطة، على اعتبار أنها غير معنية باستعادة الضفة الغربية وقطاع غزة مكانتهما كوحدة سياسية واحدة.
من ناحية ثانية، فإن المشاريع الاقتصادية، التي أشارت وسائل الإعلام الإسرائيلية إلى أن كلا من الولايات المتحدة ومصر تتعاونان على الترويج لها، تباينت مع المشاريع المقترحة الإسرائيلية في الوسائل وبعض الأهداف.
في هذا السياق، كشفت صحيفة “هآرتس” أمس الأربعاء، أن “مصر ستقترح على حركة حماس رسمياً بعد أيام مقترحاً لتدشين منطقة تجارة حرة في شمال سيناء بهدف تحسين الأوضاع الاقتصادية في القطاع”.
وقد أشارت ذات الصحيفة قبل أيام إلى أن “جولة جاريد كوشنير، كبير مستشاري الرئيس الأميركي دونالد ترامب الأخيرة في المنطقة، هدفت بشكل أساس لتجنيد الأموال اللازمة لتنفيذ مشروع منطقة التجارة الحرة”. وواضح أن البعد الجغرافي للمشروع يغذّي المخاوف من أنه يُعدّ تمهيداً لتأهيل قطاع غزة وجزء من شمال سيناء ليكونا الفضاء الذي يحتضن الدولة الفلسطينية العتيدة، بشكل يسمح لإسرائيل بالاحتفاظ بالضفة الغربية. وما يضفي شرعية على هذه المخاوف، هو حقيقة أن وسائل إعلام إسرائيلية قد أشارت في وقت سابق، إلى أن هناك مقترحات بتدشين ميناء ومطار في العريش لخدمة قطاع غزة.
لكن على الرغم من الطاقة الكامنة في الخطة الأميركية، إلا أن شكوك إسرائيل في واقعيتها وإمكانية تطبيقها تجعلها تتحرك لتقديم مقترحات ورؤى أخرى حول مشاريع اقتصادية تسهم في تجفيف بيئة التصعيد الحالي مع قطاع غزة. فإسرائيل تخشى أن يسهم التصعيد الحالي مع “حماس” إلى جرها إلى شنّ حرب على غزة لا يمكنها أن تحقق أية أهداف استراتيجية في أعقابها وتضطر بعدها، إما أن تعيد احتلال القطاع، مع كل ما يترتب على ذلك من دفع أثمان سياسية وأمنية واقتصادية؛ أو أن تخاطر بمغادرة القطاع لتنفجر حالة من الفوضى تفاقم الأوضاع الأمنية في الجنوب.
إلى جانب ذلك، فإن بعض محافل التقدير الاستراتيجي في تل أبيب تتخوف من أية ترتيبات تتعلق بتسوية الصراع مع الشعب الفلسطيني في سيناء، ترتكز على تعاون نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي، لأن هذه المحافل تحذّر من أن حالة عدم الاستقرار السائدة في مصر يمكن أن تفضي إلى حدوث تحول على طابع نظام الحكم في القاهرة بشكل يحول هذه الترتيبات مستقبلا إلى مصدر تهديد كبير لإسرائيل. فعلى سبيل المثال، هناك في إسرائيل من يحذر من حقيقة أن سيناء، التي تبلغ مساحتها 3 أضعاف مساحة فلسطين، مشرفة على بحرين، الأحمر والمتوسط، ما يجعل الوجود الديمغرافي الفلسطيني هناك مصدر تهديد كبير في حال طرأ تراجع على تعاون الحكم في القاهرة.
صالح النعامي
العربي الجديد