في انتخابات الأحد الماضي التي فاز فيها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بفترة ولاية ثانية، أدلى مواطنو البلاد بصوتين في صناديق الاقتراع، الأول لمرشحهم الرئاسي والآخر لمرشحهم في مجلس النواب. وعلى نحو أدق، لم يكن من الممكن أن يفوز أردوغان لولا «حزب الحركة القومية» اليميني المتطرف، الذي ظهر على الساحة السياسية التركية بدور “صانع الملوك” من خلال دعمه لأردوغان.
وقد تحالف «حزب الحركة القومية»، الفصيل القومي التركي المتشدد، مع «حزب العدالة والتنمية» الذي يتزعمه أردوغان، قبل الانتخابات بفترة وجيزة ليضمن فوزاً مزدوجاً لأردوغان.
فقد أضاف «حزب الحركة القومية» أصواته البرلمانية البالغة نسبتها 11،7 في المائة إلى حصة «حزب العدالة والتنمية» البالغة 42,6 في المائة ليساعد بذلك أردوغان على تكوين ائتلاف يتمتع بالأغلبية في المجلس التشريعي التركي. والأهم من ذلك هو أن «حزب الحركة القومية» لم يقدم أي مرشح له في سباق الرئاسة، بل أن رئيس الحزب دولت بهتشلي طلب من أنصاره التصويت لأردوغان، وبذلك ساعده على الفوز في الانتخابات الرئاسية بنسبة 52,6 بالمائة.
ونتيجة لذلك، أصبح أردوغان مديناً لبهتشلي وسيتقاسم معه بعضاً من السلطة، على الأرجح من خلال تعيينه أحد نوّابه الرئاسيين. ومن الممكن أيضاً أن يمنح أردوغان بعض الحقائب الوزارية لـ«حزب الحركة القومية»، مقابل دعم بهتشلي لأردوغان في البرلمان ومساعدته على إقرار التشريعات الرئيسية مثل الميزانية.
ولكن لدى أخذ التوجهات التاريخية في عين الاعتبار، يتبين لنا أن التحالف بين «حزب الحركة القومية» و«حزب العدالة والتنمية» لا يبشر بالخير لاستقرار تركيا. فجميع الحكومات التركية – بدون استثناء – التي كان يدعمها «حزب الحركة القومية» انهارت بعد تعرضها لأزمات خطيرة، بما فيها الاشتباكات المشابهة للحرب الأهلية التي نشبت في الشوارع عامَي 1977 و1979، والأزمة الاقتصادية الأسوأ التي مرت على تركيا بين عامَي 2001 و2002. ففي العامين 1977 و1979، شارك «حزب الحركة القومية» في المعارك بواسطة ميليشياته المعروفة باسم “الذئاب الرمادية”، وفي عام 2002 خان بهتشلي حلفاءه في الائتلاف الحكومي في ذلك الوقت، ودعا إلى إجراء انتخابات مبكرة أسفرت عن وصول «حزب العدالة والتنمية» الذي يتزعمه أردوغان إلى الحكم.
بيد، ليس من قبيل الصدفة أن تؤول نهاية حكومات «حزب الحركة القومية» إلى أزمات في تركيا. فجذور هذا الحزب تعود إلى تاريخ الحرب الباردة في تركيا، ونظرته إلى السياسة مشحونة بالعنصرية ومثيرة للانقسام وذات نزعة قتالية وطموحات استبدادية. بعبارة أخرى، إنه العنصر الشقي في عالم السياسة التركية.
في ستينيات القرن الماضي، وبينما شهدت تركيا انبثاق حركات يسارية وأخرى من الطبقة العاملة، بدأت الجماعات القومية المتطرفة المعادية للشيوعية بممارسة الترهيب الجسدي ضد الطلاب والباحثين والناشطين والصحفيين اليساريين. وعمد أحد الزعماء القوميين المتطرفين ويدعى ألب أرسلان تركش إلى الترويج لإيديولوجية مناهضة للشيوعية استندت على التفوق العرقي للأتراك على الأقليات من خلال حزبه المدعو «حزب الحركة القومية».
وخلال الحرب الباردة، كان القوميون المتطرفون [مجرد] قوة صغيرة في صناديق الاقتراع، ولكن «حزب الحركة القومية» أصبح مؤثراً في الشوارع من خلال تنظيمه المسلّح “الذئاب الرمادية”. وقد تصرفت هذه الجماعة كقوات هجومية في معارك الشوارع التي كانت تدور ضد اليساريين، والتي رسمت نوعاً ما معالم السياسة التركية خلال السبعينيات.
وفي نهاية الحرب الباردة، وبعد وفاة تركش في عام 1997، ابتعد الكثيرون في «حزب الحركة القومية» عن ماضي الحزب المظلم، ومن بينهم ميرال أكسينير التي انشقّت مؤخراً عن الحزب لتؤسس «حزب الخير» الوسطي الذي نال نسبة 10 في المائة من الأصوات. ومع ذلك، بقيت مجموعة أساسية من أتباع «حزب الحركة القومية» مناصرة لبهتشلي، مما ساعد على جعله والحزب عنصراً رئيسياً في السياسة التركية.
وفي الواقع، سوف يكون نفوذ «حزب الحركة القومية» أكثر وضوحاً في المسألة الكردية. فخلافاً للأحزاب السياسية التركية الأخرى، غالباً ما ينكر «حزب الحركة القومية» وجود هوية كردية في تركيا، وسوف يطالب الحزب أردوغان باتخاذ موقف أكثر تشدداً فيما يتعلق بالقومية الكردية، مثل استبعاد الحل السياسي للقضية واتخاذ إجراءات عسكرية أكثر صرامة ضد «حزب العمال الكردستاني» – جماعة إرهابية تحاربها تركيا منذ ما يقرب من أربعة عقود.
أضف إلى ذلك أن «حزب الحركة القومية» سيحدّ من حرية المناورة لدى أردوغان عند محاولته التوصل إلى تسوية مؤقتة مع واشنطن، التي اعتمدت على حليف «حزب العمال الكردستاني» – «وحدات حماية الشعب» – لمحاربة تنظيم «الدولة الإسلامية» في سوريا.
وقبل الانتخابات التركية، كانت واشنطن وأنقرة قد وقعتا اتفاقاً ينص على انسحاب «وحدات حماية الشعب» من مدينة منبج البارزة شمال غرب سوريا إلى الشرق من نهر الفرات حيث تسيطر هذه الوحدات على مساحة من الأراضي يطلق عليها اسم “روج آفا”. وقد بدا أردوغان حينذاك مستعدّاً لتقبّل سيطرة «وحدات حماية الشعب» على الجزء السوري الواقع شرق الفرات.
ومن المرجح أن يرغم «حزب الحركة القومية» الرئيس التركي على إعادة النظر في نهجه الواقعي، مما يحد من الخيارات المتاحة أمام أردوغان للحفاظ على اتفاقه مع واشنطن.
وعلى الصعيد المحلي، وانطلاقاً من تفاني «حزب الحركة القومية» للروح الاستبدادية، سيقوم الحزب بتشجيع أردوغان على ميوله المناهضة للديمقراطية. فخلال الحملة الانتخابية، حين انتقدت المعارضة أردوغان حول نزعته المستبدة، وعد الرئيس التركي بإنهاء حالة الطوارئ التي كان قد أعلنها بعد الانقلاب الفاشل عام 2016. ولكن بهتشلي الذي عارض رفع حالة الطوارئ في 26 حزيران/يونيو سيشجع أردوغان على التمسك بالسلطوية في ما يخص السياسة الداخلية.
وإذا كان شعار السياسة الخارجية لـ «حزب الحركة القومية» هو التضافر مع قضية الأتراك المقيمين خارج البلاد، فإن الوحش الأسود في هذا السياق تمثل على مر التاريخ بروسيا التي هيمنت على مجتمعات تركية كبيرة. ومن المرجح أيضاً أن يشجع بهتشلي على تبني سياسة متشددة تجاه روسيا، على الرغم من أن أردوغان ينسجم مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. ومع ذلك، يجدر ببهتشلي توخي الحذر في ضغوطه على أردوغان، فالرئيس التركي يميل إلى إضعاف حلفائه الذين يضغطون عليه بقوة. ومثال على ذلك هو فتح الله غولن الذي كان في السابق حليفاً لأردوغان وأصبح عدواً له عندما حاول التغلب عليه في السياسة التركية، وطلب من أردوغان في عام 2011 أن يعيّن أحد أتباعه رئيساً للاستخبارات التركية.
وانتهى المطاف بالزعيمين في صراع سياسي. ويعتقد بعض المحللين أن الضباط الذي انحازوا إلى غولن أدّوا دوراً رئيسياً في محاولة الانقلاب التي استهدفت أردوغان. ولكن الرئيس التركي لم يهزم فقط متآمري الانقلاب، بل اعتقل أيضاً بعد ذلك عشرات الآلاف من أنصار غولن.
فإذا أفرط بهتشلي في الضغط على أردوغان بشدة بشأن روسيا أو «وحدات حماية الشعب» أو أي قضية شائكة أخرى، لن يجد الرئيس التركي صعوبةً في تشويه سمعة «حزب الحركة القومية» وهزيمته. ومع ذلك، وبما أن أي حكومة تركية مدعومة من «حزب الحركة القومية» لم تؤل إلى نهاية حسنة، فإذا ما سقط «حزب الحركة القومية»، فمن المؤكد أنه سيحاول إسقاط تركيا – وربما أيضاً رئيسها – معه. وبالفعل، سيشكّل التعامل مع «حزب الحركة القومية» التحدي الأكثر صعوبة الذي يواجه أردوغان.
سونر جاغايتاي
معهد واشنطن