انتهت الانتخابات التركية المزدوجة، الرئاسية والبرلمانية، إلى فوز الرئيس رجب طيب أردوغان بكرسي الرئاسة من الجولة الأولى، وفوز تحالف الشعب، الذي يضم حزب العدالة والتنمية الحاكم وحليفه حزب الحركة القومية، بأكثرية مقاعد البرلمان، ما يؤكد اجتياز أردوغان وحزبه أكبر امتحان حقيقي في تاريخهما السياسي، فيما بقيت المعارضة التركية محدودة القدرة على التقدم من جديد، على الرغم من أن نسبة المشاركة في التصويت اقتربت من 90% من الناخبين، وهذا ما يفسّر استغلال تحالف الحزب الحاكم مع حزب الحركة القومية ضعف صفوف أحزاب المعارضة، وضعف تنظيمها إجراء هذه الانتخابات المبكرة والفوز بها، وخصوصا بعد العقم التاريخي الذي أصاب هذه الأحزاب، والمجسّد في عدم وجود شخصية معارضة كاريزمية، قادرة على الحشد المليوني، وتحقيق الإجماع الشعبي حولها، إضافة إلى استمرار عجزها عن تقديم أي مشروع سياسي جامع، قادر على استقطاب مختلف الأوساط الاجتماعية التركية.
وبرهنت نتائج الانتخابات المزدوجة على ارتباط مستقبل تركيا ووجهتها المستقبلية مجدداً بقيادة الرئيس أردوغان وحزبه الحاكم منذ ستة عشر عاماً، الأمر الذي يجدّد منح الثقة للرئيس وحزبه في تحقيق طموح تركيا في الوصول إلى مصاف أكبر عشر قوى اقتصادية في العالم مع حلول عام 2023، حسبما قال في خطاب النصر.
وإذا كانت هذه الانتخابات قد أعلنت انتقال تركيا الفعلي من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي، لأول مرة في تاريخ الجمهورية التركية، إلا أنها جدّدت الثقة بالديمقراطية التركية، على الرغم من أن الحملات الانتخابية شهدت تحشيداً كبيراً، وأخذت شكل صراع سياسي مفتوح، بل ومعركة “كسر عظم” بين تحالف الشعب وتحالف الأمة المعارض الرافض دخول تركيا مرحلة النظام الرئاسي، وأفضى ذلك إلى إثارة غبار كثيف في المجتمع التركي، المفعم بإرهاصات دوائر من الصراع والتجاذب التاريخي، بالنظر إلى طبيعة الهوية المركبة فيها بين الشرق والغرب، حيث لم تتمكّن العلمانية التركية من حسمها، أو تجفيف منابعها الثقافية والاجتماعية، على الرغم من عمليات العزل للهويات الاجتماعية عن الدساتير التي عرفتها الجمهورية التركية خلال تاريخها المديد.
وتعزّز نتائج الانتخابات مسيرة أردوغان السياسية التي بدأها قبل نحو 25 عاماً رئيسا لبلدية إسطنبول في العام 1994، ثم قاد حزبه إلى الحكم في 2002، وإلى الفوز في جميع الانتخابات التي خاضها خلال فترة حكمه، وأثبت أنه المعلم السياسي الأكثر نجاحاً في تركيا.
ولعل ما حققته تركيا، بقيادة أردوغان وحزب العدالة والتنمية، من استقرار اقتصادي، منذ الوصول إلى الحكم عام 2002، كان السبب الرئيسي وراء الفوز في جميع الانتخابات التي أجريت في البلاد، والذي انعكس على زيادة دخل المواطن، وفي زيادة معدلات النمو الاقتصادي، والعمل لإنجاز مشاريع اقتصادية كبرى وعملاقة عديدة، تنوعت بين مجالات المواصلات، والطاقة، والبنية التحتية، والدفاع، وأهمها مفاعل سنوب النووي، والذي ميزانيته 22 مليار دولار، ومفاعل أق كويو النووي وميزانيته 20 مليار دولار، وقنال إسطنبول وميزانيتها 15 مليار دولار، وإنجاز مشروع مطار إسطنبول الثالث وميزانيته 10 مليارات دولار، ومشروع مارماراي، وميزانيته 5 مليارات دولار، ومشروع جسر إسطنبول المعلق الثالث، وميزانيته 3.5 مليارات دولار، ومشروع إنتاج طائرات هليكوبتر “أتاك” الحربية، وميزانيته 3.3 مليارات دولار.
ولعل الأهم أن حزب العدالة والتنمية عمل على تحقيق المبدأ الأساس في الاقتصاد، القاضي بتحقيق المعادلة الاقتصادية ما بين الواردات والمصروفات، بشكلٍ يؤمن وفرة مالية للمواطن وللدولة والخزينة العامة، ولا يلحق الضرر بها، ولا تضطرها إلى اللجوء إلى الديون الداخلية ولا الخارجية، ويجعلها دولةً قويةً في ذاتها، وقويةً في اقتصادها، وقويةً في معاملاتها مع السوق العالمي. إضافة إلى توفير مناخ سليم للإنتاج والاستثمار؛ باعتبار أن للقدرات الإنتاجية التي يمكنها الدخول في المنافسة الدولية أهمية كبيرة في تحقيق الاستقرار الاقتصادي، وتطبيق السياسات الاقتصادية الناجحة، وبشكلٍ يفضي إلى زيادة الإنتاج والتوظيف والتصدير، بوصفها أسس السياسات الاقتصاديات الناجحة، وهو أمر يتطلب من الدولة توفير البنية التحتية اللازمة، من أجل الإنتاج والحث عليه.
ويحسب لحزب العدالة والتنمية الحفاظ على العلمانية التركية، علمانية الدولة التي اعتبرها أردوغان أن لا دين لها، إضافة إلى العمل على حل إشكالية صراع الدولة مع الدين، بعد قطيعةٍ ثقافيةٍ واجتماعيةٍ واقتصاديةٍ وسياسية، استمرت لما يقارب الثمانية عقود، مع الماضي الإسلامي
العثماني، وامتدت إلى حاضر تركيا، وعنت تلك القطيعة إقحام الشعب التركي في نموذج حياة جديدة غريبة عنه، من غير أن يكون هو صاحب القرار الفكري والثقافي والاجتماعي فيها، فضلاً عن أن يكون صاحب القرار السياسي.
غير أن ذلك كله لا يعفي القيادة التركية من العمل على حل إشكاليات عديدة، منها ما يتصل بالحريات الفردية والعامة، خصوصا بعد الاعتقالات الكبيرة في أعقاب المحاولة الانقلابية الفاشلة في منتصف يوليو/ تموز 2016، التي أثارت ردود فعل وتجاذبات عديدة، داخل تركيا وخارجها. إضافة إلى أن التضييق على الحريات لا يتماشى مع مقومات الدولة الديمقراطية وممارستها، بل يجهز عليها. لذلك من المعوّل عليه أن يجعل هذا الفوز بالانتخابات المزدوجة القيادة التركية تفكر جدّياً، بعد أن جدّد غالبية الأتراك ثقتهم بها، في توسيع الممارسة الديمقراطية، وتعزيز دولة القانون والمؤسسات التي تقدم مثالاً يحتذى للشعوب العربية والإسلامية.
عمر كوش
العربي الجديد