في ردّه على المساعي التي تقوم بها الولايات المتحدة لقطع صادرات النفط الإيرانية، وتشديد الضغط على طهران، لتحدّ من تدخلاتها في دول الجوار العربية، قال الرئيس الإيراني، حسن روحاني، مستغلا زيارته جنيف، ولقاءه الاثنين الماضي رئيس الاتحاد السويسري، آلان برسيه، إن “افتراض أن إيران ستصبح المنتج الوحيد غير القادر على تصدير نفطه خاطئ، ومحض خيال وجائر. الولايات المتحدة لن تستطيع قطع إيرادات إيران من النفط”. واعتبر أن “سيناريو من هذا النوع يعني أن تفرض الولايات المتحدة سياسة إمبريالية، في انتهاكٍ فاضحٍ للقوانين والأعراف الدولية. العقوبات غير العادلة المفروضة على أمّةٍ عظيمة، هي أضخم انتهاك لحقوق الإنسان يمكن تصوّره”. ولمزيد من التفصيل بشأن الرد الذي يمكن لطهران أن توجهه لواشنطن وحلفائها، أضاف في هذه الحالة قول وزير داخليته، عبد الرضا رحماني فضلي، محذرا الأوروبيين: “إذا أغمضنا عيوننا 24 ساعة سيذهب مليون لاجئ إلى أوروبا عبر حدودنا الغربية” من خلال تركيا، بالإضافة إلى إمكان تهريب نحو خمسة آلاف طنّ من المخدرات إلى الغرب. وهذا تهديدٌ مباشر لأوروبا التي تمسّكت بالاتفاق النووي، ودافعت عنه في وجه واشنطن.
ما أثار انتباهي ليس تهديد وزير الداخلية، وإنما أن الرئيس روحاني لا يجهل مفاهيم الامبريالية ومعنى القوانين والأعراف الدولية، بل إنه يحسّ بأن هناك شيئا اسمه حقوق إنسان. لكنه لا يرى انطباق أي من هذه المفاهيم والمعاني والحقوق على ما تقوم به الدولة التي هو رئيسها من انتهاكٍ صارخ لها في بلدان الجوار، والتي تكاد تنطبق حرفيا على ما يتهم به الولايات المتحدة. فكما هو واضح، يشكل تحجيم دور إيران الإقليمي، واحتواء عدوانيتها الطافحة، وإجبارها على إعادة مليشياتها الطائفية إلى داخل حدودها، على الأقل كما تصرح به حكومة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، وما تخشى منه علنا طهران، يشكل الهدف الرئيسي لسياسات فرض
العقوبات الدولية على إيران، ومنها قطع شريان المال المستخدم في تمويل الأعمال التخريبية للمليشيات الإيرانية في بعض الدول، من خلال تقليص صادراتها النفطية. بمعنى آخر، ما تطمح إليه عقوبات الرئيس الأميركي يتمثل بالضبط في احتواء ما ينبغي تسميته، اقتداءً بروحاني نفسه، سياسة طهران الإمبريالية، وخرقها القوانين والأعراف الدولية التي تنص على احترام سيادة الدول واستقلالها وحقوق شعوبها في تقرير مصيرها، وانتهاكاتها غير المسبوقة لحقوق الإنسان واعتدائها الظالم والمدمر على شعوبٍ ودولٍ لا تقل أحقية في السلام والأمن والبقاء من الأمة الإيرانية “العظيمة”. وهذا يعني باختصار إجبارها علي وقف سياساتها التخريبية، وتقويضها أسس الحياة السياسية والاجتماعية والدينية في محيطها المشرقي المباشر، من أجل تحقيق مصالح لا يمكن وصفها، ولا يصفها الإيرانيون أنفسهم إلا بالسعي إلى الهيمنة، بل والاحتلال وتوسيع دائرة النفوذ في المنطقة، أي بمصالح إمبريالية. لماذا يحق في هذه الحالة لإيران أن تحمي سياساتها الإمبريالية في الشرق، وتفتخر بسيطرتها على أربع عواصم لدول أخرى مستقلة، وإرسالها المليشيات والأسلحة والأموال والخبراء والمستشارين العسكريين وغير العسكريين إلى خارج حدودها، من أجل تمكين نظام استبدادي دموي، فاسد وفاقد أي مقومات للحكم السياسي، من ذبح شعبه وإخراجه من وطنه، ولا يحقّ لترامب الذي يرأس بلدا هو مركز الإمبريالية، وموطنها الأكبر، وقاعدتها الرئيسية، الضغط عليها للحد من أطماعها التوسعية، ووضع حد لسعيها إلى انتزاع السيطرة على الشرق الأوسط منه، ومن شركائه، والحكم بالإعدام السياسي على شعوب المنطقة وتحويل دولها، كما حصل في لبنان وسورية، إلى أدواتٍ وبيادق تستخدمها إيران لفرض إرادتها على محيطها والمجتمع الدولي؟
لا يبرر ما تقوم به إيران الخامنئية سياسات الولايات المتحدة الأميركية، ولا يعفيها من أي مسؤولية. وهي بالتأكيد المسؤولة الرئيسية عن الخراب الذي يعم منطقة الشرق الأوسط اليوم، بما في ذلك في إيران، سواء بسبب سياساتها التدخلية، وفي مقدمتها تدخلها الكارثي في العراق، في حربين متتاليتين دمرتا أسس التوازنات الإقليمية عامي 1991 و2003، أو بسبب تشجيعها إيران التي كانت المستفيدة الرئيسية من انهيار العراق، على مد نفوذها إلى سورية، وتغذية الوهم بإمكانية ابتلاعها لها، وضمها إلى ما أطلقت عليه اسم الهلال الشيعي، والذي فتح الباب أمام حربٍ مذهبيةٍ دينيةٍ عصفت بالمنطقة، وسوف تدمر آخر ما تبقى من مكتسباتها المدنية والعمرانية والسياسية الحديثة.
مشكلة طهران هي بالضبط أنها تريد أن تكون ندّا للولايات المتحدة الإمبريالية، وتعمل مثلها، وهي تطلب من الجميع، بمن فيهم ضحاياها، أن يعترفوا لها ويسلموا بهذا الحق. وإن لم يقبلوا ذلك، فسيكون الرد تماما كما ذكّر به وزير الداخلية الإيراني، تصدير اللاجئين وأطنان المخدرات إلى الغرب، وتمويل المليشيات المذهبية والحشود الطائفية المدرّبة على القتل في دول الشرق. واضحٌ أن خيارات بلدان المنطقة لا يمكن أن تكون في نظر طهران سوى القبول بإحدى الإمبرياليتين، الإيرانية أو الأميركية. ولأن إيران بنت المنطقة، ومن صلبها فهي صاحبة الشرعية الوحيدة في التحكّم بمصير شعوبها، وتجاوز الأعراف والتقاليد والقوانين الدولية وانتهاك حقوق الإنسان فيها.
هذا هو أيضا مضمون السياسة التي يسير عليها بشار الأسد الذي عمل، في السنوات الماضية، عميلا علينا لإيران، والذي لا يكفّ، في موضوع أزمة بلده، والحرب التي تطحنها بسببه منذ سبع سنوات، عن الحديث عن الحل السياسي. وعندما تأتي فرصة الحل وتعلن الفصائل والمعارضة استعدادها لكل الخيارات، يأبى أن يعترف بالمعارضة إلا كإرهابيين، ولا يجد ما يعرضه على ملايين السوريين من المدنيين، وليس المقاتلين المسلحين فحسب، سوى الاختيار بين الموت بكرامة تحت قنابل البراميل المتفجرة والغازات السامة أو الموت مجانا بسلاح الانتقام والإعدام أو جوعا وعطشا ومرضا في معسكرات الاعتقال التي أصبحت تسمّى مخيمات.
في النهاية، لم تنتصر إيران، ولن تربح شيئا، لأنها على الرغم من جنون عظمة قادتها
الحاليين، أخفقت بالضبط في بناء عظمتها القومية، أي في تنمية إيران، والعناية بشروط حياة شعبها، وتحولت إلى دولةٍ لا هم لها سوى خدمة مليشيات محلية وخارجية، اسمها الحرس الثوري وأزلامه ومريدوه من الطبقة الفاسدة الدينية وغير الدينية، وترك الشعب الذي يصرخ، ويطالب حكومته، أكثر مما يفعل السوريون أنفسهم، بخروج هذه المليشيات من سورية، والكفّ عن استخدامها ذريعةً لتبرير استمرار حكم القتل والإبادة الجماعية واللصوصية والفساد. وطالما بقيت طهران على هذه الحال، ستخسر إيران، مهما أرسلت إلى أوروبا من لاجئين، وصدرت للغرب من مخدرات ومهربين وقتلة وإرهابيين. وسوف تنقل الأزمة إلى داخلها، وتشتعل فيها النيران، كما أشعلتها هي نفسها بمساعدة أتباعها في سورية ولبنان والعراق واليمن، وغيرها من البلدان.
وإذا كان الأسد، كما تبين بوضوح اليوم، قد عمل معولا لتدمير سورية، وفرط عقد شعبها، وتشتيته، وإرساله، بمساعدة طهران، ملايين النازحين واللاجئين إلى أوروبا والعالم، فقد كانت طهران، وحكومتها الحريصة على حقوق الإنسان من الانتهاكات الأميركية الخطيرة لها، هي من دون شك اليد البديل التي استخدمتها تل أبيب، للقيام بالمهمة عوضا عنها. واستغلت من أجل ذلك العزف على عظمة الأمة الإيرانية الغالية على قلب روحاني ومليشياته، وشجعتهم بنأيها عن النفس، وتركها الحبل ممدودا لهم، كما كانت واشنطن قد شجّعت صدام حسين في 1991 على غزو الكويت، على أساس أنها لا تتدخل في النزاعات العربية. في النهاية، ليس أمام طهران اليوم لإنقاذ مشروعها الامبريالي الرثّ إلا التفاهم مع تل أبيب، والتعاون والتنسيق معها، وهو ما يلوح في الأفق، ولو عن طريق الوسيط الروسي، أو الاستمرار في لعب ورقة الخراب الشامل، كما عرّفنا عليها وزير الداخلية، عبد الرضا رحماني فضلي، ناسيا عمدا التهديد بسيف الإرهاب الذي كانت إيران أول من عمم استخدامه في العلاقات الدولية، بالإضافة إلى ملايين اللاجئين وأطنان المخدرات.
ألم يعد يوجد في هذا البلد العريق رجل حكيم أو رشيد؟
برهان غليون
العربي الجديد