جلب هذا التموز (يوليو) أخباراً مهمة عن سياسة لبنان تجاه أزمة اللاجئين السوريين. فللمرة الأولى، واجه مسؤولو الحكومة اللبنانية المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين حول سياستها الخاصة بإعادة اللاجئين السوريين إلى ديارهم. وفي 8 حزيران (يونيو)، أمر وزير الخارجية اللبنانية، جبران باسيل، بتجميد تجديد تصاريح الإقامة لموظفي المفوضية، متهماً وكالة الأمم المتحدة بتثبيط اللاجئين السوريين في لبنان عن العودة إلى سورية. وفي بيان رسمي، هدد وزير الخارجية اللبناني باتخاذ “إجراءات إضافية” ضد المفوضية. وفسر باسيل ذلك بأن الحكومة اللبنانية لم تعد تمتلك صبراً في انتظار الخروج من الأزمة. وقال: “إننا نريدها أن تكون قصيرة. لكن سياستهم (مفوضية شؤون اللاجئين) هي منع عودة (اللاجئين السوريين) من العودة، في حين أن السياسة اللبنانية هي تشجيع عودتهم”.
كانت الحادثة التي أثارت هذا التصعيد الأخير مع المفوضية تتصل بمجموعة من 3.000 لاجئ سوري يعيشون في بلدة عرسال اللبنانية، والذين كانوا ينوون العودة إلى سورية. لكن موظفي مفوضية اللاجئين أجروا مقابلات مع هؤلاء السوريين، كجزء من الإجراءات المعيارية، وحاوروهم حول الظروف التي ربما يواجهونها في بلدهم، بما في ذلك إمكانية تعرضهم للتجنيد العسكري الإجباري، والتعامل مع المشكلات الأمنية الأخرى وظروف الإقامة السيئة، وهو ما رأى فيه وزير الخارجية اللبناني إجراء يهدف إلى ردع اللاجئين عن العودة.
هناك نحو مليون لاجئ سوري مسجلين حالياً لدى المفوضية العليا لشؤون اللاجئين في لبنان، بينما تقترب التقديرات العامة من 1.5 مليون لاجئ. وقد علقت المفوضية تسجيل اللاجئين السوريين القادمين في شهر أيار (مايو) 2015، بناء على تعليمات من الحكومة اللبنانية. ولا تقوم وكالة الأمم المتحدة بتشجيع أو تسهيل عودة اللاجئين إلى سورية في ظل الظروف الحالية، وقد حذرت بشكل متكرر من مغبة “العودة قبل الأوان”. وكانت الغاية من المقابلات التي أجراها موظفو المفوضية مع اللاجئين هي التأكد من أن لديهم المعلومات الدقيقة، وأنهم يتخذون قراراتهم بشأن العودة طواعية.
على مدى السنوات الست الماضية، جادل صانعو السياسة اللبنانيون إلى حد كبير ضد استضافة اللاجئين السوريين على المدى الطويل، ودعوا بدلاً من ذلك إلى عودتهم السريعة. وكان السؤال حول ما ينبغي عمله مع اللاجئين السوريين يتصدر الأجندة السياسية خلال الانتخابات البرلمانية اللبنانية التي عُقدت في شهر أيار (مايو) 2018. وقبل الانتخابات بوقت قصير فقط، دعا الرئيس ميشيل عون دولة الإمارات العربية المتحدة، والمملكة العربية السعودية ومصر إلى التدخل في أزمة اللاجئين السوريين وتسهيل عودتهم إلى سورية. وفي نيسان (أبريل) 2018، رفض وزير الخارجية، باسيل، بشكل رسمي أيضاً نتائج “مؤتمر بروكسل الثاني حول دعم مستقبل سورية والمنطقة”، لأن الإعلان المشترك للمؤتمر ركز على العودة الطوعية للاجئين والحاجة إلى تأمين حماية فعالة للاجئين ضد مخاطر الإخلاء والعودة القسريين.
تتسبب المواجهة الأحدث بين الحكومة اللبنانية والمفوضية السامية للاجئين بالمزيد من تصعيد التوترات الحالية التي تحيط بوجود اللاجئين السوريين في لبنان. وقد تبنى لبنان سياسات تقييدية، بالإضافة إلى الخطاب العدائي، بهدف جعل حياة اللاجئين السوريين صعبة وثنيهم عن البقاء في لبنان. وفي العام 2015، قام لبنان بتعليق اتفاق ثنائي كان قد كفل حرية العيش والعمل ومزاولة النشاط الاقتصادي للمواطنين السوريين في لبنان منذ العام 1993، وطبق بدلاً منه مجموعة من القيود للحد من دخول المواطنين السوريين إلى لبنان. كما أن لبنان لا يعترف قانونياً بمكانة اللاجئ للسوريين ويطلب تأشيرات من جميع السوريين قبل دخولهم لبنان.
لا يقتصر الأمر على وجود الحواجز القانونية والمادية أمام دخول اللاجئين لبنان، وإنما هناك حواجز أيضاً أمام دخولهم سوق العمل في البلد. ويقتصر عمل اللاجئين السوريين على ثلاثة قطاعات عمل: الإنشاءات، والزراعة، والتنظيف. وليس من السهل الحصول على تصاريح العمل، لأنها تتطلب وجود راعٍ لبناني ودفع مبلغ كبير من النقود. وبالإضافة إلى ذلك، يأتي الحصول على تصريح عمل مع المخاطرة بفقدان المنافع والمساعدات التي يحصل عليها اللاجئ من مفوضية اللاجئين. ويشكل الافتقار إلى دخول سوق العمل عنصراً حاسماً في مدى صعوبة تمكن اللاجئين السوريين من إعالة أنفسهم. ووفقاً للمفوضية السامية للاجئين، فإن 75 في المائة من أسر اللاجئين السوريين ليست قادرة على تلبية احتياجاتها من الغذاء والرعاية الصحية والمأوى والتعليم في العام 2017. وبالإضافة إلى ذلك، فإن 77 في المائة من اللاجئات السوريات الإناث، و66 في المائة من اللاجئين الذكور، واجهوا مضايقات لفظية. ونتيجة لذلك، فإن ظروف العيش للاجئين السوريين في لبنان رهيبة.
في نيسان (أبريل) الماضي، أصدرت منظمة “هيومن رايتس ووتش” تقريراً عن “الإخلاء الجماعي” للاجئين السوريين من منازلهم في لبنان في الفترة ما بين العامين 2016 و2018. ووجدت المنظمة أدلة على أن السلطات البلدية اللبنانية اتخذت إجراءات موجهة بشكل حصري نحو المواطنين السوريين وليس نحو المواطنين المحليين أو المواطنين الأجانب الآخرين. وزعمت السلطات اللبنانية أن عمليات الإخلاء استندت إلى مخالفات تتعلق بالإسكان. وبالإضافة إلى ذلك، تُظهر التقارير إخلاء نحو 13.700 سوري من منازلهم في لبنان في العام 2017 وحده. وفي حين أن هذا الرقم ليس كبيراً بمقارنة بالعدد الكلي للاجئين السوريين في لبنان، فإنه يظل مهماً من حيث ما يرمز إليه في السياسة اللبنانية: لم يعد اللاجئون السوريون موضع ترحيب في لبنان.
على الرغم من ظروف العيش القاسية وحوادث الترحيل المتقطعة، لم تكن سياسة الإعادة الجماعية القسرية للاجئين السوريين مطروحة أبداً على الطاولة. وفي شباط (فبراير)، أعلن رئيس الوزراء اللبناني، سعد الحريري، بوضوح، أن لبنان لن يجبر اللاجئين السوريين على العودة. وقال: “لن يقوم أحد بإجبار أحد على العودة إذا كان لا يريد العودة”. ومع ذلك، تشير تصريحات وزير الخارجية والمواجهة مع المفوضية السامية للاجئين إلى أن الحكومة اللبنانية ربما لا تكون متفقة حول هذه السياسية. ويبدو أن لبنان قد يكون قريباً من تغيير سياسته من “عدم تشجيع السوريين على البقاء في لبنان” إلى “دفع السوريين إلى الخروج من لبنان”.
سوف يشكل الدفع بعودة اللاجئين السوريين انتهاكاً للمبدأ الأساسي للقانون الإنساني الدولي الخاص بعدم الإعادة القسرية للاجئين. وتنص المادة 33 (1) من معاهدة العام 1951 والمتعلقة بـ”مكانة اللاجئين” على أنه “لا يجوز لأي دولة متعاقدة طرد أو إعادة لاجئ (“قسراً”) بأي شكل من الأشكال إلى حدود الأراضي التي قد تكون حياته أو حريته معرضة فيها للتهديد على أساس العرق، أو الدين، أو الجنسية، أو بسبب عضوية مجموعة اجتماعية معينة أو بسبب رأي سياسي”. وفي حين أن لبنان ليس موقعاً على معاهدة العام 1951، فإن الإجماع الدولي كان يضع عدم إعادة اللاجئين قسراً بين قواعد القانون الدولي العرفي.
في الوقت نفسه، يعاني لبنان بشكل مفهوم من “إجهاد اللاجئين”. ويستضيف بلد صغير بنحو ستة ملايين نسمة ما يعادل سُدُس سكانه. وقد أصبح لدى لبنان حالياً أعلى معدل لاجئين بالنسبة للفرد في العالم. وكان لبنان يستضيف، قبل وقت طويل من أزمة اللاجئين السوريين، أجيالاً من اللاجئين الفلسطينيين لأكثر من ستين عاماً. وخلال ذلك، عانى لبنان من حربه الأهلية الخاصة طوال عقدين، حيث كانت القضية الفلسطينية في قلب تلك الحرب الأهلية. وللبنان تاريخ من الإفراط في تمديد موارده لاستضافة اللاجئين، فضلاً هن كونه ضحية لحروب الآخرين.
تبقى هذه كلها مخاوف مشروعة للبنان. ومع ذلك، فإن الإجابة عن هذه المشكلات لا يمكن أن تكون دفعَ السوريون للعودة إلى سورية. وحتى الآن، لم يكن ثمة سبب يذكر للاعتقاد بأن الظروف في سورية قد تحسنت بحيث تتيح عودة آمنة للاجئين. وهناك الكثير من المؤشرات التي تخبرنا بأنه لا يوجد الآن سيناريو قابل للتطبيق لعودة طوعية وآمنة ومستدامة لملايين اللاجئين السوريين. وبالإضافة إلى ذلك، قادت الحملة العسكرية المستمرة التي يشنها نظام الأسد وروسيا في جنوب سورية إلى تشريد نحو 320.000 شخص، والذين أصبحوا الآن عالقين بين الأردن ومرتفعات الجولان المحتلة. وقد وصف مجلس اللاجئين النرويجي هذه الموجة الجديدة من التشريد بأنها “الأكبر على الإطلاق” في الحرب السورية.
يجب على لبنان، مثله مثل الدول المجاورة الأخرى والمجتمع الدولي، أن يقبل بأن اللاجئين السوريين لن يذهبوا إلى أي مكان في أي وقت قريب. ويجب على الجميع الاستعداد للتعامل مع أزمة اللاجئين السوريين لسنوات مقبلة. وهناك حاجة إلى طريقة جديدة في التفكير للتعامل مع الوضع الراهن. وإحدى نقاط الانطلاق العملية هي أن يعترف المجتمع الدولي بمخاوف لبنان -والدول المضيفة الأخرى أيضاً- وأن يقوم بتوفير الدعم الاقتصادي لجعل عبء استضافة مئات الآلاف من اللاجئين ممكن التحمل.
علاء الدين أبو زينة
الغد