ما الأكثر أهمية وأولوية عند الرئيس الروسي: أن يسلم له الرئيس الأميركي بتفوقه في سورية، أم أن يعترف له بضمّه شبه جزيرة القرم؟ لا هذا ولا ذاك، فكلاهما يعني أن دونالد ترامب يقرّ بأمر واقع وأنه يتبرّع لفلاديمير بوتين بما لا يحتاجه لأنه، ببساطة، يمتلكه. الهدية الأهم عنده، ومفتاح التقارب والنجاح لقمّة هلسنكي، أن يأتي ترامب مصمّماً على تحريك العقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا منذ اندلاع الأزمة الأوكرانية. وليس في ذلك طموح روسي مستهجَن، أو أكبر من المتخيّل، فثمة أطراف أوروبية متضرّرة من العقوبات تتطلع إلى تسوية، ثم أن ترامب ومساعديه أكثروا، خلال حملته الانتخابية والمرحلة السابقة لتنصيبه رئيساً، من الإشارات إلى أن بداية أي «وفاق» ستكون بمواجهة الخلافات في شأن أوروبا والمنظومات الدفاعية، وأوكرانيا تأتي في هذا السياق. صحيح أنهم اضطروا لاحقاً إلى نسيان كل السيناريوات بعد تفجّر قضيتي الاتصال بالروس على مستويات مختلفة والتدخّل الروسي في الانتخابات الأميركية، إلا أن العودة إلى نهج التقارب تشير إلى تجاوز إدارة ترامب الصعوبات وجاهزيتها لاستئناف سياساته التي رُسمت (بالتشاور مع الروس؟)، فالتحقيقات في القضيتين لم تتوصّل إلى ما يدين الرئيس وإن وضعت يدها على الكثير من التقاطعات المشتبه بها.
ولا في أي مرحلة، خلال إدارتَي ترامب وباراك أوباما، كانت سورية بين الخلافات الاستراتيجية مع روسيا، قبل تدخلها المباشر وبعده. الفارق الوحيد بين الإدارتَين أكّده أخيراً مستشار الأمن القومي جون بولتون بأن الخلاف «الاستراتيجي» ليس على بشار الأسد بل على إيران. فمع إدارة أوباما كان الضوء مسلّطاً على «مصير الأسد» لتغطية التغاضي الأميركي عن التدخّل الإيراني في سورية كواحد من الحوافز التي نالتها طهران للتوقيع على الاتفاق النووي، وقد تعاملت إدارته ببراغماتية خالصة مع التدخّل الروسي في سورية باعتبار أن التدخّل الأميركي لم يكن وارداً في أي وقت. أسفر ذلك عن تفاهمات «استراتيجية» ما لبثت إدارة ترامب أن تبنّتها، ويمكن التعرّف إلى طبيعتها في التصفية المتدرّجة للمعارضة المسلّحة منذ خريف 2016 إلى اليوم، بدءاً بحلب مروراً بالغوطة الشرقية ووصولاً إلى درعا. ذاك أن جوهر التفاهمات بُني على أن المشكلة في سورية هي الشعب وانتفاضته وليست النظام الذي احتاج إلى إيران ثم إلى روسيا لإنقاذه، ولم يعد يشكّل خطراً على إسرائيل التي ساهمت أيضاً في إنقاذه، حتى أنها تتشارك اليوم مع روسيا وأميركا في العمل على إخراج إيران من المعادلة العسكرية وفي رسم معالم التسوية في سورية.
لم تكن روسيا مضطرّة للتعايش مع الوجود الأميركي على الحدود- ثم في الأراضي- السورية لولا أن الولايات المتحدة سبقتها إلى هناك وشكّلت تحالفاً دولياً لـ «محاربة الإرهاب» مع حرص شديد ومتكرّر على عدم التأثير في الصراع السوري «الداخلي»، بل إنها تمسّكت بهذا الحرص حتى بعدما أصبح الصراع «خارجياً» بحتاً. وفي أي حال كانت «محاربة الإرهاب» من الأهداف الروسية المعلنة، والمستمرّة، للتدخّل الذي غدا احتلالاً بكل المواصفات ولا تزعجه سوى الاختراقات الإيرانية في أروقة النظام وأجنحته العسكرية والأمنية وميليشياته. كان النظام وإيران قد زرعا نبتة «الإرهاب» في الصراع السوري لاختراق مناطق سيطرة المعارضة، وردّت واشنطن باتهامهما بـ «اجتذاب الإرهاب» مميزة بين مَن يقاتلون ضد النظام ومَن انضووا في صفوف «داعش» و «النصرة/ القاعدة»، لكن روسيا لم تفرّق بين الفصائل. ويتضح الآن أن جميع المتدخّلين الخارجيين يدينون بالشكر لـ «داعش» وأشباهه على الخدمات التي أدّوها لهم. كما أن جدل الفصائل «المعتدلة» والمتطرّفة» لم يكن سوى للاستهلاك الإعلامي، لأن الأميركيين والإسرائيليين أثبتوا في نهاية المطاف أن لا مانع لديهم من تصفية جميع الفصائل، بما فيها تلك التي شكّلت «جبهة الجنوب» وكانت حركتها محكومة بالخطوط الحمر التي يحدّدونها.
بطبيعة الحال لم يكن هناك في أي وقت خلاف أميركي- روسي في شأن إسرائيل. فالأخيرة حققت أكبر مكاسب مالية وعسكرية كـ «تعويض» أميركي عن الاتفاق النووي، ولم يمنعها ذلك من المواظبة على رفضه والدعوة إلى إلغائه والظفر أخيراً بالانسحاب الأميركي منه. ثم أنها حصلت في وقت قياسي على اتفاق استراتيجي مع روسيا منحها منذ أواخر 2015 مشروعية ضرب الإيرانيين وميليشياتهم وبالتالي طرح إشكالية وجودهم في سورية وبالتالي إنضاج ضرورة تقليص بنيتهم العسكرية ومن ثَمّ خروجهم. غير أن ترامب وبنيامين نتانياهو يأملان بأن يحسم بوتين موقفه في قمة هلسنكي من مسائل ثلاث: 1) إخراج إيران من سورية. 2) تبنّي «صفقة القرن» كتسوية نهائية للقضيّة الفلسطينية. 3) الموافقة على الترتيبات الجارية لنزع الصفة الاحتلالية الإسرائيلية عن الجولان والاعتراف بـ «شرعية» الوجود الإسرائيلي فيه…
لكن هذه ليست أولويات بوتين، ففي سعيه إلى تثبيت مصالح روسيا في سورية انتزع من نظام الأسد العديد من القرارات على حساب مصالح إيران وقدّم كلّ التسهيلات لتمكين إسرائيل من تقليم المخالب الإيرانية، بل إنه ساهم في تنامي دورها وتأثيرها في توجيه التسوية السورية. ولذلك فإنه غير مدين لها أو لواشنطن إلى حدّ منح مباركته التلقائية لما تخططان له بالنسبة إلى الفلسطينيين والجولان. الأرجح أنه لم يحدّد بعد أي مقاربة إيجابية أو سلبية للمسألتَين، إذ إنهما مرتبطان بمستقبل الدور الروسي في المنطقة ومن الأفضل أن يتركه للتفاوض تحديداً مع الولايات المتحدة في حال أظهرت استعداداً لمقايضات كبرى ملموسة. لكن المؤكّد أن الرئيس الروسي الذي لم يبد في إدارته للأزمة السورية أي اهتمام باعتبارات القانون الدولي والحقوق الإنسانية، لن يتوقّف عند حقوق الفلسطينيين أو حتى عند المسؤولية الروسية عن مصير الجولان وسيادة سورية الدولة وسلامة حدودها. فالمهم أن تُعرَض عليه الصفقة المناسبة.
من المتوقّع أن يركّز أي اتفاق في هلسنكي على مصير الشمال الشرقي لسورية، فالروسي الذي يحمّل الأميركي مسؤولية الدمار في الرقّة ينسى أنه خلّف في حلب والغوطة الشرقية دماراً مماثلاً في هوله، والروسي الذي استاء من اجتذاب الأميركي للأكراد وتسليحهم وحمايتهم ينسى أيضاً أنه منح الإيرانيين غطاءً لمشروعهم التخريبي في سورية. من هنا أن الطرفَين يحتاجان إلى اتفاق يكرّس تفاهمهما على استبعاد تركيا عن شرق الفرات ويأخذ في الاعتبار أن محاربة فلول «داعش» لم تنته، كذلك مهمّة القوات الكردية. فالأميركي العازم على الانسحاب من المنطقة، بحلول تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، ولو من دون تعجّل، لا يمانع عودة نظام الأسد إليها لكن من دون الإيرانيين، ما يحتّم عليه «التصالح» مع الأكراد، ويبدو أن الروس حقّقوا تقدّماً في إقناع النظام و «قوات سورية الديموقراطية» بصيغة تعاون مختلفة عن «المصالحات» في المناطق الأخرى. في السياق نفسه يتشدّد الأميركيون بالنسبة إلى الحال التي يجب أن تسود على الحدود السورية- العراقية بحيث تكون تحت سيطرة الجيشين ولا وجود فيها للميليشيات. هذه نقطة اشكالية، فلا حكومة بغداد قادرة على إغلاق «ممر طهران- بيروت» ولا نظام دمشق لديه الإرادة السياسية أو القوات الكافية لإغلاقه، ولا الضمانات الروسية بدت في وقت صلبة ويمكن الاعتماد عليها.
السائد في الأذهان أن لقاء ترامب- بوتين لا يمكن أن يثير توقّعات إيجابية للدول أو للشعوب. ليس فقط بسبب الطبيعة الموتورة للرجلين بل أيضاً لأن رداءة الأوضاع في المنطقة تشجّع الدولتَين على استثمار المآسي ومكامن الضعف في بناء توافقاتهما. لذلك يغيب أي ذكر لـ «السلام» عن خطاب الرئيسين ليحضر «الاستقرار الإقليمي» كعنوانٍ مرادف لنجاحهما في توزّع المصالح وعدم استمرارهما في التصارع إلى حين… فكلّ الأخبار الجيّدة لها وجوه بالغة السوء: الانسحاب الأميركي تكريس لبقاء روسيا في سورية إلى ما لا نهاية. خروج إيران من سورية استحقاق ضروري للمنطقة لكنه لا يبرّر مكافأة إسرائيل على جرائمها بإدخالها إلى عموم المنطقة.
عبدالوهاب بدرخان
الحياة