يُقدّر يفغيني ياستريبوف الناشط في لجنة “العون المدني” العاملة في مجال حقوق المهاجرين واللاجئين نسبة السوريين الذين باتوا بلا أوراق، والمعرَّضين لخطر الاستغلال في العمل وحرمانهم من خدمات الصحة والتعليم في روسيا بنحو 95 في المائة، “من بين عدد يتراوح بين 8 و10 آلاف يعيش أغلبهم في مدينتي نوغينسك ولوسينو-بيتروفسكي اللتين احتضنتا آلافاً من السوريين منذ دشن تجار حلبيون معامل في مجال الغزل والنسيج فيهما بعد تفكك الاتحاد السوفياتي” كما تقول ليلى روغوزينا والتي تعمل بمنظمة “المبادرة المدنية” المعنية بحقوق اللاجئين.
وتأوي نوغينسك اليوم “مجمعاً حلبياً” يضم بضعة آلاف من المهاجرين واللاجئين السوريين، وقبل بداية الحرب في سورية، كان هؤلاء يأتون إلى روسيا للعمل لمدة عام أو عامين، ثم يعودون. ورغم أنهم دخلوا روسيا بتأشيرات، إلا أنهم أصبحوا، بعد التصعيد في سورية، لاجئين، كما تمكن بعضهم من نقل عائلاتهم إلى روسيا، كما توضح روغوزينا.
ويعيش اللاجئون السوريون في روسيا ظروفاً مزرية ما دفع بعضهم بالعودة إلى سورية، في ظل صعوبات في إيجاد سكن وعمل إذ لا يتوفر لهم إلا أعمال موسمية بمصانع الغزل والنسيج في مدينتي نوغينسك ولوسينو-بيتروفسكي في مقاطعة موسكو، كما يقول ياستريبوف الذي تتفق معه ليلى روغوزينا قائلة “جميع اللاجئين السوريين تقريباً باتوا بلا أوراق”، مضيفة في إفادة لـ”العربي الجديد”: “نتيجة لذلك هم محرومون من العمل والعلاج والمدارس لأبنائهم. في وقت سابق، كانت مصانع الغزل والنسيج تغض الطرف عن عدم حملهم الأوراق اللازمة، ولكن الوضع تغير فيما بعد. وحتى أولئك الذين حصلوا على اللجوء المؤقت، يصعب عليهم إيجاد عمل لعدم إتقانهم اللغة الروسية”.
جوازات سفر منتهية
يوضح يفغيني ياستريبوف أن المشكلة الرئيسية التي يواجهها اللاجئون السوريون لإيجاد عمل مناسب، هي عدم حملهم أي أوراق، قائلاً في هذا السياق: “يحمل أغلبهم جوازات سفر منتهية، مما يمنعهم من التقدم بطلبات اللجوء المؤقت. أما تسوية الأوراق، فتتطلب دفع 20 ألف روبل (316 دولاراً) لتجديد جواز السفر بالسفارة السورية بموسكو، بالإضافة إلى غرامة قدرها 5 آلاف روبل (حوالى 79 دولاراً)، ومثل هذه المبالغ تفوق إمكانياتهم المتواضعة كثيراً، فيفضلون البقاء بلا أوراق”.
وحول طبيعة عملهم، يقول يفغيني ياستريبوف: “عملهم موسمي ويبدأ في الربيع، ويتوقف خلال فترة الشتاء، وأغلبهم متخصصون في الغزل والنسيج ودرسوه في سورية قبل قدومهم. أما أصحاب التخصصات الأخرى، ففرصهم في إيجاد عمل في روسيا ضعيفة، ويتوجهون إلى دول أخرى. وحتى أولئك الذين تمكنوا من إيجاد عمل في روسيا، يتقاضون أجوراً زهيدة، ويعتمد أغلبهم على مساعدات مادية من أقربائهم في دول مثل ألمانيا وتركيا”.
ومع ذلك، يشير ياستريبوف إلى قلة حالات النصب على اللاجئين السوريين في ما يتعلق بدفع أجورهم نظرا لتوظيفهم لدى رجال أعمال سوريين أيضا، وذلك على عكس العمال من أوزبكستان وطاجيكستان الذين يتعرضون للاستغلال بلا مقابل مادي في أحيان كثيرة.
وتعليقاً على العوائق أمام توظيف السوريين بالشركات والمصانع الروسية، يذكر ياستريبوف تشديد الرقابة على ضرورة حمل العاملين الأوراق اللازمة، بينما يغض أصحاب الأعمال السوريون الطرف عن ذلك.
حرمان من العمل والرزق
العشريني محمد عطا الله، واحد من الشباب السوريين الذين باتوا بلا أوراق في روسيا، بعد أن وصل عام 2012 بتأشيرة نظامية للعمل بأحد معامل الغزل والنسيج في نوغينسك، إلا أن احتدام المعارك في مدينته حلب منعه من العودة، ليمكث منذ ذلك الحين في غربته بلا صفة واضحة ومصدر رزق.
يروي محمد تجربته بمرارة، قائلاً في حديث لـ”العربي الجديد”: “بعد شهر على وصولي ازدادت وتيرة أعمال القتال في حلب، وأصبح باب العودة مغلقا، وحصلت على اللجوء المؤقت لمدة عام، ولكن بعد انتهائه أصبحت بلا أوراق، فأوقفتني الشرطة وصدر حكم بمنعي من العمل”.
منذ صدور الحكم، أصبح محمد بلا عمل، ولم يبق له سوى التوجه إلى ممثلية مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في موسكو أملا في تسوية أوضاعه، بينما يقدم الأصدقاء السوريون الذين يسكن معهم عوناً له، خاصة وأن أحدهم يحمل الجنسية الروسية مما يسهل عليه أموراً كثيرة.
أما الآمال في لم شمل الأسرة، فباتت معدومة بعد أن فر شقيق محمد إلى تركيا هرباً من آتون الحرب، بينما اعتقل والده بعد دخول قوات النظام إلى مناطق كان يسيطر عليها “الجيش السوري الحر” في حلب.
ويوضح المترجم باسل إسماعيل الذي يعمل مع اللاجئين السوريين بشكل يومي، أن ما تعرض له محمد من رفض تمديد أوراقه ليس بأمر نادر في روسيا، وسط تذرع السلطات الروسية بأن الوضع الأمني في سورية تحسن، ويمكن للسوريين العودة إلى بلدهم.
ويقول إسماعيل لـ”العربي الجديد”: “تعتبر السلطات الروسية أن عمليتها العسكرية في سورية أسفرت عن القضاء على الإرهابيين وأن الوضع الأمني تحسن بعد سيطرة النظام على معظم المناطق، فباتت ترفض طلبات اللجوء وتمتنع عن تمديد الأوراق”.
حال محمد هي نفس حال آلاف اللاجئين السوريين الذين باتوا بلا صفة واضحة في روسيا التي لا تميز كثيراً بين اللاجئين والمهاجرين، مما يعرضهم لخطر الاعتقال والاستغلال من قبل أرباب العمل، كما تصف أوضاعهم ليلى روغوزينا.
ومع تدهور أوضاع اللاجئين، جعلت “المبادرة المدنية” من دعمهم همها الأساسي، وذلك من خلال استقبالهم وتقديم عون قانوني وخدمات الترجمة والتعليم لأبنائهم في مدينتي نوغينسك ولوسينو-بيتروفسكي.
إغلاق “الطريق الشمالي”
بعد شعورهم بخيبة الأمل من الإجراءات البيروقراطية شبه التعجيزية في روسيا، اختار بضعة آلاف من اللاجئين السوريين التوجه إلى النرويج وغيرها من الدول الإسكندنافية فيماعرف بـ”الطريق الشمالي”. وفي مؤشر لارتفاع عدد الفارين من البيروقراطية الروسية إلى النرويج، عبر 100 لاجئ الحدود الروسية النرويجية في يوم واحد في شهر أكتوبر/تشرين الأول 2015، من بين 5500 آخرين خاضوا ذات التجربة خلال تلك الفترة، وفق بيانات سلطات الهجرة النرويجية، إلى أن تم غلق هذا الطريق بوجههم في نهاية العام ذاته، كما يقول اللاجئ الأربعيني السوري من ريف حلب، حسين محمد (اسم مستعار للحفاظ على أمنه الشخصي)، الذي روى تجربته لـ”العربي الجديد”.
حسين واحد ممن خالفهم الحظ، فلم يستطع العبور إلى النرويج برفقة أسرته، ليعود إلى موسكو، كما يقول مضيفاً : “عندما وصلنا إلى مقاطعة مورمانسك، كانت النرويج قد أغلقت حدودها، بعد أن كانت الوجهة المفضلة للاجئين، ولأن العبور بين المخفرين الحدوديين الروسي والنرويجي يستغرق خمس دقائق فقط سيراً على الأقدام وهذا الطريق لا ينطوي على مخاطر حتى في فصل الشتاء شديد البرودة في تلك المنطقة القطبية”.
وفي ذلك الوقت، كانت السلطات الحدودية الروسية تسمح لكل شخص يحمل جواز سفر غير مزور وعليه تأشيرة روسيا، بالعبور والتوجه نحو فنلندا أو النرويج رغم عدم توفر تأشيرات دخول للبلدين، إلى أن أبلغت النرويج روسيا بقرار إغلاق الحدود.
وجد حسين نفسه أمام خيار بديل، وهو التوجه إلى فنلندا، إلا أن الطريق كان سيستغرق نحو ساعة سيراً على الأقدام، ما جعله يخشى خطورة السير لساعة كاملة برفقة أبنائه الصغار في فصل الشتاء والبرد القارس، فقرر العودة إلى موسكو.
إجراءات تتعارض مع القانون
يشير الناشط السوري المدافع عن حقوق اللاجئين السوريين في روسيا، معز أبو الجدايل ، إلى أن روسيا بلد غير آمن للاجئين وفقاً للتصنيفات الدولية. ويقول أبو الجدايل في حديث لـ”العربي الجديد” إن “مفهوم اللاجئين في روسيا مختلف جداً عنه في أوروبا، ولا يوجد فرق بين المهاجرين واللاجئين، وهو أمر يتعارض مع القانون الدولي”.
ورغم أن المادة 1 من قانون اللاجئين الروسي تعترف بأن “اللاجئ هو شخص أجنبي لا يمكنه العودة إلى وطنه بسبب المخاوف على حياته، وتنص على منحه لجوءً مؤقتاً لمدة عام”، إلا أن اللاجئين يصطدمون بواقع مغاير تماماً بمكاتب مصلحة الهجرة الروسية.
ويضيف أبو الجدايل في هذا السياق “الحالة السورية كارثة دولية، ولكن روسيا تجري مقابلات لتحديد ما إذا كان الشخص لاجئا أم مهاجرا، وتقوم بتغريم اللاجئين الذين تجاوزوا مدة التأشيرة رغم وجود قرارات قضائية تقضي باعتبار ذلك مخالفاً للقانون الدولي”.
وتسبب غياب إجراءات واضحة لمعاملة اللاجئين في روسيا، في بقاء أسرة مكونة من زوج وزوجة وأربعة أبناء، عالقة في مطار “شيريميتييفو” في ضواحي موسكو لأكثر من شهرين في نهاية عام 2015، إلى أن تم تحويلهم إلى مركز إيواء مؤقت في نهاية المطاف، وفق ما وثقه معد التحقيق.
ووسط هذه الإجراءات المعقدة، أصبح اللاجئون السوريون يخافون من الذهاب إلى هيئات الهجرة الروسية، فباتوا بلا أوراق، وتسرب أطفالهم من التعليم وظهرت “مافيا اللجوء” القائمة على الوساطة بين اللاجئين والجهات المعنية بالهجرة. ويقول أبو الجدايل: “منذ بداية الحرب الأهلية في سورية، أصبح هناك بزنس اللجوء، وهو عبارة عن عصابات منظمة تشارك فيها جهات الهجرة والشرطة والقضاء ووسطاء روس وسوريون”، استغلالاً لخوف اللاجئين من الذهاب إلى جهاز الهجرة خشية من الملاحقة.
رامي القليوبي
العربي الجديد