بقدر الشغف الدولى بمسابقات المونديال والمنافسة فيها، تبدت رسائل سياسية لا يمكن تجاهل تأثيراتها فى حركة الأحداث والتفاعلات المقبلة.
كانت أول رسالة سياسية مدى ما أثبتته الدولة المضيفة روسيا من قدرة على التنظيم الكفء.
كل شىء مضى متقنا فى أدق التفاصيل، حتى بدت أنها الفائز الأكبر، بغض النظر عما حازه منتخبها من نتائج فاقت كل التوقعات المسبقة.
تحسنت الصورة، نشطت سياحتها، لفتت الانتباه إلى ما لديها من مخزون ثقافى وفنى، وعرضت قدراتها التنظيمية كأنها تقول: «هنا قوة عظمى».
رسائل الصورة، منقولة إلى أنحاء العالم، استبقت لقاء الرئيسين الروسى والأمريكى «فلاديمير بوتين» و«دونالد ترامب» فى هلسنكى.
هذه تدخل بغير مباشرة فى حسابات الهيبة.
تبدت رسالة ثانية تدخل فى تعقيدات العلاقات الأمريكية الأوروبية.
كادت المسابقة الدولية أن تكون أوروبية محضة فى أدوارها الإقصائية.
لم تكن تلك مصادفة، فالدوريات الأوروبية الكبرى تحتكر بالاحتراف اللاعبين الموهوبين اللاتينيين والأفارقة والآسيويين.
كانت تلك شهادة بتطور اللعبة الأكثر شعبية فى ملاعبها ومدى قدرة دولها على النهوض والتفوق واكتشاف المواهب وتوفير البيئات الحاضنة لكل ما له صلة بالإبداع، وليس فى الرياضة وحدها.
الشهادة بذاتها تثبت أن القارة العجوز ليس ممكنا الاستغناء عنها، أو اصطناع الأزمات معها مجانيا، كما يفعل «ترامب» من وقت لآخر حتى أصبح الأمر داعيا للتساؤل عما إذا كان يعرف أين أصدقاء الولايات المتحدة؟
بتعبير رئيس الاتحاد الأوروبى «دونالد توسك» عشية قمة حلف «الناتو»، التى شهدت منازعات ومشاحنات بين الرئيس الأمريكى وحلفائه: «عزيزتى أمريكا، قدرى حلفاءك، فليس لك الكثير منهم فى نهاية المطاف».
وكانت الرسالة الثالثة أنه لم تعد هناك أقطاب كروية تحتكر البطولات والكئوس، أو تتداولها فيما بينها، كأنها ترجمة فى مسابقات كرة القدم لما يحدث فى النظام الدولى من سيولة تتعدل فيها مواقع وتتبدل موازين.
بدت المفاجآت قاعدة لا استثناء، حتى كف كبار الخبراء والمختصين عن التوقع.
تقاربت المستويات الفنية والمهارية بين عدد كبير من المنتخبات المتنافسة وبزغت قوى جديدة.
شىء من ذلك يحدث فى بنية النظام الدولى.
لم يعد ممكنا الحديث عن قوتين عظميين تتصارعان وتتقاسمان النفوذ وتتزعم كل منهما معسكرا يناقض الآخر أيديولوجيا واستراتيجيا واقتصاديا، كما كان عليه الحال فى سنوات الحرب البادرة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتى السابق.
ولم يعد ممكنا الحديث عن هيمنة قطب واحد على المعادلات الدولية، كما كان عليه حال الولايات المتحدة بعد انهيار الاتحاد السوفييتى وتفكك حلف «وارسو».
التفاعلات الدولية لم تستقر على أوضاع أخيرة، لكنها تذهب بقوة الحقائق إلى تعددية قطبية.
شبه الصدامات المتكررة بين حلفاء الحرب العالمية الثانية، الولايات المتحدة وأوروبا، تشى بدرجة من السيولة فى طبيعة العلاقات تؤسس لشىء جديد لم تستبين ملامحه.
الحروب التجارية بين الصين والولايات المتحدة تؤشر إلى بعض ملامح النظام العالمى الجديد، الذى لم يتأسس بعد، فى صراعات القوة والنفوذ والمصالح.
أين العالم العربى؟
هو ميدان الصدام لا طرف فاعل فيه.
لم يكن إجمالى أداء المنتخبات العربية مشرفا بالقياس على مستوى المنتخبات الإفريقية والآسيوية ولا داعى للاعتزاز باستثناء مباريات بعينها.
أخطر ما كشفته منافسات المونديال أن الفجوات اتسعت بين بعض المواطنين العرب وبعضهم الآخر إلى حدود منذرة.
المشكلة أننا هنا فى مصر كما العالم العربى لا نناقش ولا نعترف بما هو ماثل وصريح ومزعج.
لا نواجه أنفسنا بالحقائق ولا نضع أيدينا على الأسباب.
وكانت الرسالة الرابعة تأكيد الأهمية القصوى للتخطيط وفق مقتضيات المواجهات، فلكل مباراة ظروفها وتحدياتها، والتاريخ لا يشفع دائما.
لم يصل إلى المونديال منتخبا «إيطاليا» و«هولندا» وخرجت ألمانيا من دورى المجموعات والأرجنتين وإسبانيا والبرتغال من دور الـ(١٦) والبرازيل من الدور ربع النهائى.
بتصنيف الفيفا تتصدر هذه المنتخبات القوى الكروية فى العالم.
فى الملاعب أطيحت بها واحدة تلو أخرى.
أى نجاح ممكن يعتمد على حجم الجهد المبذول فى الملعب ومدى كفاءة التخطيط الفنى فى توظيف الإمكانيات المتاحة وإدارة المباراة وفق متغيرات الظروف، لا على ادعاءات التفوق وأسماء اللاعبين الكبار.
رادف سقوط المنتخبات الكبيرة سقوط آخر لفكرة الاعتماد على موهبة لاعب أوحد، مثل «ليونيل ميسى الأرجنتين» و«كريستيانو رونالدو البرتغال» و«نيمار دا سيلفا البرازيل».
الجماعية أساس أى تخطيط قادر على النجاح دون استبعاد أهمية المواهب الفردية شرط توظيفها فى خدمة الفريق.
هذه قاعدة عامة رياضية وسياسية تسرى على الدول كما المباريات.
وكانت الرسالة الخامسة تأكيد أهمية القواعد.
لا لعبة رياضية تجذب دون قواعد تضمن نزاهة منافستها، ولا دولة تفلح إذا غابت عنها القواعد القانونية الحديثة، التى تضع حدودا بين ما يصح وما لا يصح.
إدخال تعديلات على أية قواعد ليست مستهجنة بذاتها، فالقواعد ليست جامدة ولا نصوص مقدسة بقدر ما هى توافقات مستقرة بتراكم الخبرة لضمان عدالة المنافسة.
أدخلت «تقنية الفيديو» لأول مرة فى تاريخ المونديال لضمان سلامة القرارات الحساسة، التى لم يتأكد منها حكم المباراة كوسيلة مساعدة.
بصورة أو أخرى حدثت أخطاء فى استخدام التقنية الجديدة، لكنها تظل قابلة للتصحيح والتطوير، هكذا شأن القواعد.
نفى القواعد، أو تشويهها ومسخها، مسألة مختلفة جذريا.
ربما لم يلفت الانتباه فى مسألة القواعد أن الملوك والرؤساء ورؤساء الحكومات، الذين حضروا مباريات منتخبات بلادهم، جلسوا يمينا ويسارا حول رئيس الاتحاد الدولى لكرة القدم «الفيفا»، باعتبار أنه صاحب الحدث ومضيفهم.
فى ذلك احترام للعبة الدولية وتكريس لبروتوكول وأصول.
وكان غياب «تريزا ماى» رئيسية وزراء بريطانيا عن المنصة الرئيسية لمباريات بلادها على خلفية قضية تسميم الجاسوس الروسى المزدوج «سيرجى سكريبال» وابنته فى لندن داعيا للتساؤل: هل كسبت رهانها على المقاطعة الرسمية للمونديال أم كانت خسارتها فادحة؟
وكانت الرسالة السادسة تأكيد القيم الإنسانية ورفض أى خروقات عنصرية بالخصوص.
جرت فى بعض المدرجات إشارات وأصوات ضد اللاعبين الأفارقة، وهذا كاشف لمدى تغلغل العنصرية ومشاعر التفوق الأبيض فى دول أوروبية عديدة، بينها الدولة المضيفة.
رفض العنصرية فى بيانات ومواقف تعبير عن صراع حقيقى ضد الشعبوية والجماعات النازية الجديدة، وقد كان لافتا أن أغلب لاعبى فرنسا وبلجيكا ينتمون إلى أصول إفريقية وعربية.
قد تساعد النتائج الإيجابية للمنتخبين الأوروبيين فى تخفيض حدة كراهية الأجانب.
هذه واحدة من أفضل الرسائل السياسية فى المونديال، التى قد يصعب حصرها.
عبدالله السناوي
الشروق