إيران التي لا تكاد تغيب عن الأحداث العراقية الكبرى طيلة الخمس عشرة سنة الماضية، تبرز بشكل ملتبس في موجة الاحتجاجات العارمة التي تهز مناطق عراقية، وذلك من خلال وقفها تصدير الكهرباء إلى المناطق المنتفضة في أوج موجة الحرّ، ما يعني مساهمتها في تأجيج الموقف وتعقيد مهمّة حكومة بغداد الحليفة لها.
بغداد – لم يحجب البروز الواضح للمطالب الاجتماعية والخدماتية في واجهة الاحتجاجات الجارية في العراق منذ حوالي عشرة أيام، الخلفيات والأبعاد السياسية العميقة لهذه الانتفاضة التي لا تبدو قريبة من نهايتها رغم الإجراءات الحكومية العاجلة لإخمادها.
وبرز مجدّدا الدور الإيراني الذي تضخّم في العراق طيلة الـ15 سنة الماضية، ليس في إسناد سلطات بغداد التي تقودها أحزاب ذات ارتباطات واسعة بإيران، لكن في إطلاق شرارة الاحتجاجات، وذلك حين أقدمت طهران على قطع الكهرباء على مناطق الجنوب العراقي، في أوج موجة الحرّ التي تُضاعف الحاجة إلى الطاقة الكهربائية.
وكثيرا ما كانت إيران حاضرة بشكل غير مباشر في احتجاجات وموجات غضب سابقة بالشارع العراقي، على اعتبار الأحزاب الحاكمة في البلد والمسؤولة عن تردي أوضاعه وتراجعه في مختلف المجالات، هي أحزاب مدعومة إيرانيا، حتى أنّ محتجّين سبق أن شملوا إيران بشعارات الغضب التي يرفعونها.
وتقول مصادر قريبة من حكومة رئيس الوزراء حيدر العبادي، إنّ شخصيات في هذه الحكومة مصدومة وتشعر بمرارة كبيرة إزاء الموقف الإيراني المتشدّد من قضية الكهرباء.
وتمّ قبل أيام إيفاد وزير الكهرباء قاسم الفهداوي إلى طهراء لمحاولة إقناع السلطات الإيرانية بإعادة تصدير الطاقة للعراق، ولو ظرفيا ريثما تهدأ الاحتجاجات، لكن مسعى الوزير تكلّل بالفشل.
وأعلن الفهداوي الاثنين عن وضع خطة بديلة لاستيراد الطاقة الكهربائية من إيران، مرجعا ذلك في بيان صحافي إلى إعلان الجانب الإيراني عدم تمكنه من إعادة خطوط التوريد الأربعة إلى الخدمة من جديد.
ولم يتطرق الوزير العراقي إلى الأسباب التي دفعت إيران إلى إيقاف إمداد العراق بالكهرباء، لكن مسؤولين في وزارته ربطوا القرار الإيراني بديون متراكمة على الحكومة العراقية جرّاء استيراد الكهرباء من إيران.
وبدا لمراقبين أنّ الموقف الإيراني من قضية الكهرباء ملتبس، حيث لم تبذل طهران جهدا لإنقاذ حلفائها في بغداد في فترة حرجة، يمكن أن تبلغ فيها التهديدات حدّ خلخلة أسس النظام القائم والذي ساهمت إيران نفسها في إرسائه.
وذهب بعض المحلّلين إلى أنّ حسابات أعمق وأكثر تعقيدا تقف وراء قرار إيران بقطع توريد الكهرباء إلى مناطق جنوب العراق تحديدا، حيث أهم آبار النفط العراقية، ما يعني دفع سكان تلك المناطق، الغاضبين أصلا من سوء أوضاعهم، إلى الانتفاض وإرباك إنتاج البترول وتصديره، الأمر الذي يعني إحداث هزة في سوق النفط العالمية، وبالتالي توجيه إنذار للولايات المتحدة العازمة على خنق صادرات النفط الإيرانية، بأن طهران تمتلك أوراقا لإرباك السوق العالمية ورفع الأسعار إلى مستويات فلكية.
ومن جهة مقابلة يرى متابعون لتطورات الأحداث في العراق ومن حوله، أنّ طهران تعاني خلال الفترة الراهنة حالة من الضعف والإرباك بسبب اشتداد الضغوط الأميركية عليها، وأنّها لا تملك فعلا الكثير من الوسائل والإمكانيات لمساعدة السلطات العراقية على مواجهة الوضع المربك الذي تعانيه.
شخصيات في حكومة العبادي مصدومة من القرار الإيراني بوقف تصدير الكهرباء للعراق في هذا الظرف الحرج
ويذكّر هؤلاء بأنّ محدودية الدور الإيراني في مدّ يد المساعدة الفعلية لبغداد تجّلت بوضوح خلال مؤتمر الكويت الدولي لإعادة إعمار العراق، الذي انعقد في فبراير الماضي، حيث لم تتعهّد إيران بتقديم أي مساهمة في تعهدات الدول المشاركة بالمؤتمر والتي بلغت ثلاثين مليار دولار.
وللمرّة الثانية اتجهت حكومة بغداد صوب الكويت أملا في المساعدة، وذلك من خلال اتصال هاتفي بين رئيس الوزراء حيدر العبادي، وأمير الكويت الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح، الذي أبدى استعداد بلاده، بحسب ما أوردته وكالة الأنباء الكويتية الرسمية “كونا”، “لتقديم كل دعم ممكن للعراق الشقيق ليتمكن من تجاوز ما يمر به من أحداث”.
ولم يخل الموقف في جنوب العراق من بواعث قلق لسلطات الكويت، التي من مصلحتها ضمان الهدوء والأمن في المناطق العراقية المحاذية للأراضي الكويتية.
وبلغ حجم التكلفة المالية للإجراءات التي تعهّد رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي باتخاذها لتلبية مطالب المحتجين بشأن الخدمات وتوفير مناصب الشغل حوالي 3 مليارات دولار، وهو مبلغ كبير جدّا بالقياس إلى الأوضاع المالية الصعبة التي يواجهها العراق.
وفيما تتوقّع دوائر عراقية أن يتجّه رئيس الوزراء العراقي إلى دول عربية وأجنبية للمساعدة في توفير المبلغ، تؤكّد الدوائر ذاتها أنّ إيران مستبعدة بشكل كامل من المساهمة في ذلك نظرا لوضعها المالي الصعب، وربما أيضا لحساباتها السياسية المعقّدة تجاه الساحة العراقية.
ودخلت التظاهرات في العراق الاثنين أسبوعها الثاني، في تحرك احتجاجي شهد عنفا أسفر عن قتلى وجرحى، ما يسلط الضوء على الضائقة الاجتماعية التي تعاني منها شريحة كبيرة من هذا البلد الذي أنهكته 15 عاما من النزاعات الدامية.
وخرج الآلاف في تظاهرتين مطلبيتين جديدتين صباح الاثنين في محافظتي ديالى وذي قار في شرق وجنوب بغداد، وفق مراسلي وكالة فرانس برس.
وبالنسبة للمحتجين الذين هاجموا مقار مختلف الأحزاب السياسية في كل المحافظات الجنوبية، حيث أحرقوا بعضها أو أنزلوا صورا علقها السياسيون أنفسهم، فإن المشكلة الكبرى الأخرى هي الفساد.
ويؤكد هؤلاء أنه منذ الغزو الأميركي للعراق الذي أطاح بنظامه السابق قبل 15 عاما، استولت الطبقة الحاكمة على الأموال العامة والموارد الطبيعية وحرمت العراقيين من المشاريع الخدمية والبنى التحتية الأساسية، علما أنّ أحزابا شيعية موالية لإيران هي من تتولى الحكم بشكل أساسي في العراق.
العرب