على الرغم من مرور عامين على المحاولة الانقلابية، ما زالت تسمع وتقرأ في تركيا تحليلات تردّد أن الهدف الحقيقي هو أبعد من أن يكون مجرد عملية انقلابية كلاسيكية في تركيا، تعودنا عليها كل عقد تقريبا، بل هي مؤامرة لإشعال الفتن الداخلية والحرب الأهلية، عبر تحريك ورقة جماعة فتح الله غولن التي تحتمي بعواصم وأجهزة استخباراتية عديدة، وأن المحاولة لو تكللت بالنجاح، لكنا اليوم أمام حالة من الفوضى العارمة في تركيا، عبر رمي آلاف من القيادات السياسية والحزبية في السجون، واغتيال وتصفية مئات من الشبان الحزبيين، وحكومة تدار من الخارج بلباس عسكري تركي.
ما الذي يعنيه تحريك الطائرات والمصفحات وإخراج آلاف الجنود من ثكناتهم لقصف مبنى البرلمان والقصر الجمهوري، وإعطاء الأوامر بمطاردة الرئيس التركي وتصفيته، وتحويل المدنيين إلى أهداف حية لقناصة بلباس عسكري، من المفترض أن تكون مهمتهم تماما غير ذلك؟
تذكّر الأتراك ثانية ما جرى ليلة 15 يوليو/ تموز 2016. في العلن هي محاولة انقلابية لا
تختلف عن محاولاتٍ كثيرة اختبرها الأتراك مراتٍ، منذ الستينيات، في تاريخهم السياسي، لكنها في الحقيقة عملية استهداف إقليمي دولي لتركيا، عبر خطة تدار من عواصم ومدن عديدة، بينها بنسلفانيا وواشنطن ولندن وبروكسيل واسطنبول وأنقرة، بهدف توجيه رسالة ليس إلى ثمانين مليون تركي فقط، بل إلى ملياري مسلم في العالم، عبر تركيا التي تطوعت لتكون نموذجا إقليميا صاعدا جامعا وموحدا.
لو لم ينجح أردوغان في توجيه رسالته عبر الهاتف النقال في اللحظة المناسبة، ولم يتحرّك قائد الجيش الأول، الجنرال أوميد دوندار، ليعلن رفضه ما يجري، وتأكيد وقوفه إلى جانب السلطة السياسية في مواجهة العملية، ربما لكان قدر تركيا والاتراك غير ما هو عليه اليوم. ولكن هناك حقيقة أخرى، هي أن الشارع التركي لم يثبت قدرته فقط على التصدي للمحاولة الانقلابية، بل أثبت رشده في الذود عن الديمقراطية والإنجازات الاقتصادية والإنمائية التي وفرها له حزب العدالة والتنمية، الحاكم منذ عام 2002 في تركيا.
القيادات التركية ملتزمة حتى اليوم بعدم الكشف عن تفاصيل ومعلومات كثيرة بشأن ما جرى ليلة المحاولة الانقلابية، لكن هناك رسائل مكررة توجه إلى أسماء غربية معروفة، أميركية في غالبيتها، عن دورها المباشر في المخطط وتنفيذه. في المقابل، هناك من يتحدث عن “خدمات” قدمتها أجهزة الاستخبارات الروسية والإيرانية إلى أنقرة في اللحظة المناسبة، لتساهم في التحرّك والمواجهة. وقد دفع السفير الروسي في أنقرة، ألكسندر كارلوف، حياته ثمن ذلك قبل عامين، عندما استهدفه تنظيم غولن مباشرة في العاصمة التركية.
يضرم أحد المزارعين الأتراك النار بمحصوله القريب من مطار أنقرة العسكري لعرقلة حركة الطيران، وأحد الشبان يفترش الأرض أمام مصفحة تتقدّم، لعرقلة مسيرتها نحو سحق ما أنجزته الديمقراطية التركية في الأعوام القليلة الماضية. 251 شهيدا ومئات الجرحى في مواجهة الأسلحة الثقيلة، وأوامر أعطيت للوحدات بإطلاق الرصاص الحي على المدنيين، وهي ليست مناورة عسكرية.
من لا يعرف معنى الديمقراطية ولم يمارسها من قبل لن يفهم ما جرى ليلة 15 يوليو/ تموز 2016 في تركيا. والانقلابات العسكرية في هذا البلد يخطط لها وينفذها كبار ضباط المؤسسة العسكرية من العلمانيين والأتاتوركيين المتشددين بمعرفة عواصم غربية، في مقدمتها واشنطن، الحليف والشريك الأميركي المفترض لتركيا. المحاولة الانقلابية الفاشلة قبل عامين هي الخامسة بين محاولاتٍ نجح بعضها، وفشل بعضها الآخر بين عامي 1960 و2016. يواصل القضاء محاكمة عشرات من المتورّطين، والذين أقروا بدور جماعة غولن في المؤامرة، وهو ما قاله أيضا تقرير برلماني مفصل، صدر قبل عام، ويتحدث بالتفصيل حول حجم اختراق أنصار غولن، وتمركزهم أكثر من نصف قرن في المؤسسات التركية الرسمية والخاصة، وانتظار هذه الفرصة للانقضاض بدعم (وتشجيع) جهات خارجية، ما زالت توفر له الحماية.
ما جرى باختصار أن جماعة عرّفناها عقودا حركة خدماتية في تركيا وخارجها، تقود عملية انقلاب عسكري، وتتركنا أمام امتحان سياسي وأمني واجتماعي، بالكاد بدأنا نلملم جراحه العميقة، فعلى الرغم من أن المحاولة تم إفشالها خلال ساعات، فان تداعياتها الداخلية والإقليمية والدولية ما زالت قائمة.
كان ما فعلته جماعة غولن في منتصف شهر يوليو/ تموز 2016 قاسيا، لأنه أساء إلى صورة الجماعات والقوى الإسلامية الكثيرة، الناشطة خدماتيا وإنسانيا في تركيا، وتركها أمام حالة من الشك الدائم، ثم لأنه ضرب مباشرة في أسس العلاقات الإسلامية الإسلامية وبناها في تركيا، وترك أخيرا آلاف الأتراك الذين اقتربوا من هذا التنظيم، ووثقوا به أمام تهم الخيانة والإهانة والتعرّض للملاحقة والتهميش.
محاولة انقلابية بغطاء عسكري، وبالتنسيق مع أجهزة وقوى خارجية، لجماعة زعمت أنها تخدم الوطن، مؤتمنة على الأبناء، فحولتهم إلى مجندين، يقاتلون باسمها، ويحققون لها ما تريد بعدما
ألحقتهم بالمرافق والمراكز الحكومية والمناصب الحساسة. ربما لذلك، يردّد أردوغان أن تركيا لم تعد تبحث عن خطط دفاعية لمواجهة “أسراب” البعوض التي تهاجمها، بل هي قرّرت التحرك نحو المستنقعات والمياه الراكدة التي توفر لها التكاثر.
الملفت في قرار التصدّي للانقلابيين، هذه المرة، والذي جاء مختلفا عن مواجهاتٍ سابقة، هو تحرّك القواعد الشعبية، لحماية الإنجازات السياسية والاقتصادية التي وصلت إليها تركيا في السنوات الأخيرة، والإصرار على عدم تعريضها للخطر أو إطاحتها. كان الرد السياسي والشعبي سريعا وعفويا، لكنه كان كافيا لإفشال المؤامرة.
هي عملية احتلال على شكل انقلاب، فجاء الرد التركي، بعد أسابيع فقط، عبر تحريك الجنود في شمال سورية في عملية “درع الفرات”، ولاحقا في “غصن الزيتون”، ثم منبج، لرد التحية. نتائج انتخابات 24 يونيو/ حزيران المنصرم، حسب قواعد حزب العدالة والتنمية، هي عملية استكمال للرد على المحاولة الانقلابية قبل عامين، لكن تصفية الحسابات لم تكتمل بعد.
في اللحظة التي كان يعلن خلالها الرئيس التركي أسماء وزرائه الجدد في النظام الرئاسي، كانت وكالة التصنيف الائتماني العالمية، موديز، تعبرعن قلقها إزاء المساس باستقلالية البنك المركزي التركي، وكانت وكالة فيتش العالمية للتصنيف الائتماني تعلن عن تخفيضها تصنيف الديون السيادية التركية درجة واحدة، وتغيير نظرتها المستقبلية إلى الوضع الاقتصادي في البلاد من “مستقرّة” إلى “سلبية “. الرئيس التركي رد بالقول “إننا نركز على أعمالنا، وليس على تصريحات تلك الوكالات.. تركيا تسير في الطريق الصحيح”. نجاح تركيا وحزب العدالة والتنمية في التصدي للمحاولة الانقلابية وإفشالها حرم لاعبين إقليميين ودوليين كثيرين من فرص إبعاد أنقرة عن ملفات سياسية وأمنية حساسة. ولذلك يُرى كل هذا الغضب والانفعال والتصعيد والاستهداف الاقتصادي والمالي لتركيا اليوم في محاولةٍ لتعويض ما فقدته هذه القوى قبل عامين.