بعد نحو ستة أشهر من إعلان الحكومة العراقية “النصر” على تنظيم الدولة الإسلامية عقب ثلاث سنوات من معارك دامية دارت على ثلث أراضي البلاد التي كانت خاضعة لسيطرته، عادت المشاكل الاجتماعية لتحتل رأس سلم الأولويات، فعمت الاحتجاجات المطلبية المحافظات الجنوبية بدءا من البصرة، مدينة النفط. فقد اعتاد العراقيون في كل صيف ومع ارتفاع درجات الحرارة التي تتجاوز الخمسين درجة مئوية، على الانطلاق في مظاهرات تحتج على سوء الخدمات وخاصة الكهرباء؛ لكن مظاهرات هذا العام كانت مختلفة، وباتت تتسع وتكبر ككرة ثلج متدحرجة وسط لهيب الصيف الحارق.وقد دفع توسع حركة الاحتجاجات التي انطلقت شرارتها من البصرة نحو محافظات جنوبية أخرى مثل ميسان والديوانية والنجف وغيرها، الحكومة إلى الزج بمزيد من القوات الأمنية إلى الشارع لوقف تدفق المتظاهرين.
ويقول الباحث في معهد الشرق الأوسط بجامعة سنغافورة فنر حداد “مع انتهاء الحرب ضد داعش، عادت إخفاقات الطبقات السياسية العراقية في جميع جوانب الحكم والإدارة الاقتصادية بقوة إلى الواجهة”.بدءا من الانقطاع الكبير للكهرباء ومرورا بنقص المياه وانعدام الخدمات، وصولا إلى توفير فرص العمل، مطالب جعلت الآلاف يصرخون على مدى عشرة أيام: “أين الحكومة؟”.ويضيف حداد “المطالب الصيفية حالة سنوية منتظمة” في بلد تصل درجات الحرارة فيه خلال الصيف إلى 50 درجة مئوية.
وبالرغم من أن مطالبات المحتجين لا تزال محصورة في الجانب الخدمي، فإن هناك خشية لدى أطراف سياسية ودينية عديدة من أن تخرج تلك المطالبات من ذلك النطاق لتنتقل إلى الجانب السياسي. وطرحت علامات استفهام كثيرة بشأن احتجاجات العراق التي دخلت أسبوعها الثاني، حيث تحدث البعض عن وجود أطراف داخلية وخارجية تسعى للاستفادة من تداعيات المظاهرات الغاضبة على انتشار الفساد وغياب الخدمات وعدم توفر الوظائف.
ويرى متابعون للشأن العراقي أن هناك عدة جهات دخلت على خط الحركة الاحتجاجية، مستغلة مشاركة المتضررين من أبناء هذه المدن التي تعاني من غياب الخدمات وبعض المظالم الاجتماعية.وقال إن بعض “اللصوص والمنحرفين” قاموا بأعمال سلب وتخريب للممتلكات العامة، وأن صراع الأحزاب المهيمنة انعكس على المظاهرات، إذ تم حرق العديد من المقرات الحزبية مما ينذر بصراع شيعي-شيعي حاد قريبا على حد قولهم. بالإضافة إلى أن جهات تسعى للتغطية على عمليات “تزوير” الانتخابات النيابية التي في مايو /آيار الماضي.
ويرى المتابعين للشأن العراقي أن عامل دول الجوار الإقليمي حاضر بقوة في حركة الاحتجاجات المجتمعية، حيث كان ذلك بمثابة استجابة على ما يبدو لتهديد واشنطن بالتضييق على النفوذ الإيراني في جنوبي العراق، فبادرت طهران وأطراف إقليمية أخرى بالدخول على خط الاحتجاجات.
ولايرى المتابعون للشأن العراقي أن حركة الاحتجاجات ستستمر طويلا رغم أنها حظيت بقبول شعبي واسع، بل ستتوقف عندما تحصل بعض التسويات السياسية في ظل وجود ضغوط إقليمية ودولية للإسراع بتشكيل الحكومة.وبالإضافة إلى ذلك، فإن الحكومة لا تمتلك أدوات للتغيير على الأرض، وستبقى هذه المظاهرات تدور في حلقة مفرغة، وفق ما يرون.
ومن المفيد الإشارة هنا أن بدايات الحركة الاحتجاجية كانت عفوية وساهمت عدة عوامل في اتساعها، حيث إن شرارتها انطلقت مع مجموعة شباب عاطلين عن العمل أمام إحدى شركات النفط الأجنبية في البصرة. وقد ساهم القمع الذي طال المحتجين والفشل الحكومي في التعاطي معهم في اتساعها، لكن هناك الآن محاولات لاستثمار هذا المظاهرات من قبل الطبقة السياسية “رغم أنها خرجت ضدها بالأساس”.
ويرى متابعين للشأن العراقي أن هذا الحراك فرصة لتثبيت نتائج الانتخابات والتلويح بالمخاوف من انزلاق البلاد إلى الفوضى، فيما يراه آخرون فرصة لتثبيت حضور الحشد الشعبي كحام للدولة وإظهار القوات الأمنية بمظهر “العاجز”. وتبدو إيران في نظر الكثير من المحتجين متهمة بإضعاف الدولة العراقية والتأثير سلبا في ملف الطاقة بقطع إمدادات الكهرباء عن المحافظات المحاذية لها كالبصرة وديالى، بالإضافة إلى عمليات تهريب المخدرات وإغراق السوق العراقية بها.ويمكن قياس ردة فعل الشارع وسخطه على النفوذ الإيراني في حرق صور الخميني علنا لأول مرة في جنوب العراق منذ عام 2003.
ورغم دعوات البعض لتوسيع نطاق الاحتجاجات نحو المحافظات الشمالية والغربية، فإن المتابعون للشأن العراقي لا يتوقعون حدوث استجابة كبيرة لذلك.ويستبعدون أن تنتقل هذه المظاهرات إلى المحافظات السنية بأي شكل من الأشكال، فما زالت ذكريات التظاهرات التي خرجت بشكل عفوي في عامي 2013 و2014 حاضرة في الأذهان، قبل أن تستغل من قبل بعض الجهات وتتحول إلى انتكاسة بمعنى الكلمة .كما أن ظهور أي حركة احتجاج في هذه المحافظات حاليا يجعلها معرضة لتهمة “الدعشنة”، فضلا عن أن الوضع الأمني هناك لا يسمح بذلك، حيث إن كثيرا من أطراف وبوادي الموصل وسامراء والرمادي وكركوك وغيرها ما زالت تشهد هجمات تستهدف القوات الأمنية.
ويؤكدون أن إيران حاولت استثمار الأزمة عبر توجيه بعض المتظاهرين صوب الشركات النفطية، للضغط علىأسواق النفط العالمية والتسبب برفع الأسعار، ردا على العقوبات الأميركية عليها ودعوة ترامب لمنظمة أوبك إلى زيادة الإنتاج لتخفيض الأسعار. ويستغربون من غياب الدور الأميركي إعلاميا، حيث إن السفارة الأميركية في بغداد لم تعلق بشكل يتفق مع حجم ما يحصل.
ويؤكد المتابعون للشأن العراقي أن حيدر العبادي تعرض لـ”الظلم” في هذه الاحتجاجات، مبررين أنه كان يحتاج وقتا أطول بعد تحرير البلاد لتنفيذ وعده بمكافحة الفساد الذي اعتبره “امتدادا لداعش”. فقد اتخذ مجموعة من القرارات الضخمة، منها صرف ما يقارب ثلاثة مليارات دولار لمشاريع في البصرة، من أجل فرص عمل ومساكن ومشاريع تحلية مياه وتعزيز الكهرباء.
لعلّ أخطر ما شهده العراق في السنوات الأخيرة يتمثل في تمزيق ما بقي من النسيج الاجتماعي للبلد. في أساس ذلك تحكّم الأحزاب المذهبية بكلّ نواحي الحياة وفرضها قيما لا علاقة لها بكلّ ما هو حضاري في هذا العالم. لم يعد مكان في العراق لربّ عائلة يريد تربية أولاده بطريقة سليمة. لم يعد هناك من مستقبل لغير الفاسدين الذين يعملون لدى أحزاب دينية أو لمنافقين قبلوا أن يكون بلدهم مجرّد تابع لإيران.
لعلّ أخطر ما يمرّ فيه العراق حاليا أمران. يتمثل أوّلهما في فشل الأكراد، في ضوء النتائج الكارثية لقرار السير في الاستفتاء على الاستقلال في أيلول – سبتمبر الماضي، في إقامة منطقة تشكل نموذجا ناجحا لما يمكن أن يكون عليه العراق مستقبلا.
أمّا الأمر الثاني فيتمثل في إمكان استخدام إيران للعراق في عملية تستهدف التأثير على إمدادات النفط في العالم. من هذا المنطلق ليس مستغربا أن يكون كلام المسؤولين العراقيين عن وجود “عناصر مندسة” تعمل على تصعيد الموقف يستهدف الإشارة إلى عناصر تابعة لإيران. ما لا يمكن تجاهله أن إيران تمرّ حاليا في مرحلة صعبة في ظل مخاوف من مزيد من العقوبات الأميركية يكون التركيز فيها على تصدير نفطها.
من الصعوبة بمكان استبعاد فرضية أن إيران التي هددت بإغلاق مضيق هرمز في حال منعها من تصدير نفطها، تريد توجيه رسالة عشية قمة دونالد ترامب – فلاديمير بوتين. فحوى الرسالة أنّه إذا لم تكن إيران قادرة على إغلاق مضيق هرمز، فهي قادرة على استخدام العراقيين في تعطيل عملية تصدير النفط العراقي. سيكون لذلك تأثير كبير على السوق العالمية وعلى سعر برميل النفط.
وحدة الدراسات العراقية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية