ما هي العواقب السياسية والاقتصادية والاجتماعية لو كان على الولايات المتحدة أن تستوعب مئة مليون لاجئ في غضون أعوام قليلة؟ هذا نسبياً هو واقع حال لبنان الذي تبلغ مساحته عشرة آلاف كيلومتر مربع، والذي استقبل أعداد مطلقة من اللاجئين السوريين بقدر يزيد عمّا وفد إلى كامل الاتحاد الأوروبي منذ عام 2011، وهو عند أدنى التقديرات يتجاوز المليون وقد يصل إلى المليونين. وحتى التقديرات المتحفظة تضع لبنان البالغ عدد سكانه أربعة ملايين نسمة، في موقع قياسي تاريخي في نسبة اللاجئين إلى المواطنين. واليوم، ومع استتباب واقع جديد في سوريا، يتحول فعل الضرورة في استقبال اللاجئين عبر الحدود السورية إلى خطر وجودي.
بعد سبعة أعوام من الثورة السورية، يقترب نظام دمشق من الغلبة الفعلية. أما في لبنان التي انقسم فيها التعاطف مع الأطراف المتنازعة في سوريا، فقد تبنت حكومتها رسمياً موقفًا محايدًا تجاه النزاع المتصاعد في دول الجوار. ولكن هذه الحكومة، وانسجاماً مع السجل الطويل بانعدام الفعالية لدى أجهزة الحكم في لبنان، باغتها النزوح الهائل الوافد من سوريا وتخلفت عن تأطيره أو تنظيمه أو إدارته بالشكل الناجع. وقد شهد كل من الأردن وتركيا نزوحاً مشابهاً من حيث الحجم، إلا أن كل منهما أعد خطة عمل ميدانية وديبلوماسية. بهذا الشأن، ذلك في حين أن المسألة بقيت بالنسبة للبنان شأناً عابراً أو استدراكياً، في المحافل الدولية كما داخلياً، مع اعتماد لبنان سياسة أمر واقع أبقت الحدود مفتوحة.
وهذا الإهمال يعود وإن جزئياً إلى أن موقف لبنان الحيادي إزاء سوريا ليس صادقاً. وقد تمكنت جهات مساندة للمعارضة بالفعل من تسريب بعض الدعم، بما فيه قدر ضئيل من السلاح، غير أن لبنان، بمثابته «ولاية أميرية» إيرانية، حيث الحضور العسكري التابع لإيران، أي حزب الله، يفوق القوات المسلحة الحكومية في القدرة الفعلية، وحيث التركيبة السياسية قد هذّبت وشذّبت لتوفير الغطاء المطلوب إيرانياً، قد قدّم الخدمات القيّمة للنظام السوري. ومدى ضلوع الحكومات اللبنانية بهذا الدور، ومقدار فعاليته، مسألة فيها نظر. أما ما هو خارج النقاش، فهو أن حزب الله، الموسوم بأنه حركة مقاومة تهدف إلى التصدي للخطط الإسرائيلية، قد ساهم بقدر مرموق، نيابة عن أوليائه في إيران، في استنقاذ نظام دمشق من سقوط كاد أن يكون محتوماً. وفي بعض أوائل مهامه هذه، أفرغ حزب الله مساحة واسعة من الأراضي السورية المتاخمة للحدود اللبنانية من سكانها، تلبية لحاجات النظام في دمشق. والحصيلة المباشرة لفعل حزب الله هذا كان تشريد أهالي المنطقة وقدوم أعداد غفيرة منهم إلى لبنان.
ليس كل السوريين الوافدين إلى لبنان من نازحي الحرب. فعلى مدى العقود الماضية، استضاف لبنان أعداد كبيرة من العمال السوريين، تقدر بمئات الآلاف، بشكل خاص في بعض القطاعات الاقتصادية مثل البناء والزراعة. كما أستقبل لبنان جزء كبير من أصحاب الثروات السوريين، سواء المرتبطين بالنظام أو الساعين إلى حماية ثرواتهم منه. وهذا القدوم الاقتصادي تضاعف مع احتدام الأزمة في سوريا ومع تفاقم العوامل التي كانت أساساً له. علاوة على ذلك، لجأ الكثير من سكان الريف السوري المهاجر إلى لبنان للبحث عن ملاذ آمن لهم في البلدات والقرى اللبنانية.
بل واقع أنه لا جديد في هذا القدوم السوري قد دفع المجتمع اللبناني إلى قدر من الإهمال من خلال اعتبار أن ما يجري هو زيادة كمية وحسب على ما هو معتاد من التداخل الاقتصادي بين البلدين. ولا شك أن التعاطف مع السوريين الهاربين من بطش نظام خبر اللبنانيون بطشه كان واسع النطاق وصادقاً.
إلا أنه للأرقام وطأة. فسرعان ما استنفدت القدرات البلدية والأمنية والاجتماعية في البلدات الحاضنة لتوفير العناية التي يحتاجها ويستحقها اللاجئون في ساعات ضيقهم. وسرعان ما تأثرت أسعار السلع، كما أقساط إيجار المنازل، وكذلك مستوى البطالة، على ارتفاعها المسبق. بل تبدلت وجهة الدعم والمساندة وما كانت تقدمه المؤسسات غير الحكومية العالمية، وحتى الهيئات الأهلية اللبنانية، لهذه المجتمعات، في العديد من الحالات، لصالح الحاجات الأكثر إلحاحاً للاجئين. والأخطر أن الإجرام، في شكليه الطارئ والمنظّم استغلّ ارتفاع أعباء دوائر الشرطة المحلية ليزداد حدة وانتشاراً.
وأمام غياب الخطة الوطنية الكفيلة بالتصدي لهذه الأحوال، عمدت بعض البلديات إلى معالجة الوضع المستجد بخطوات ارتجالية بعضها على قدر من الغرابة، تكشف عن أشكال باطنة من العزلة والتنميط. فجرى بالتالي في أكثر من حالة فرض «منع تجول للسوريين»، بل وصدرت أوامر اعتباطية بوجوب التسجيل لدى البلدية، ومنع للشباب السوري من ركوب الدراجات النارية. وقد لا تكون الاعتداءات على المواطنين السوريين أو من قبلهم قد تجاوزت نسب الجنح المعتادة، غير أن الأجواء المشحونة بالعداء بين اللبنانيين والسوريين جعل من كل حادثة خبر صفحة أولى، في لبنان كما في المهاجر السورية حيث جرى تناقل أخبار الاعتداء على السوريين بمقادير من المبالغة في وصف المجتمع اللبناني بالعنصرية، بلغة تطفح بدورها بالطعن والتجريح.
وعلى الرغم من الاستنزاف المعتاد والحاصل مع أية مساعدة خارجية، فإن الدعم المالي الدولي قد ساهم بتجنيب لبنان العواقب الاقتصادية الكارثية لزحمة اللجوء السوري الجديد. إلا أن ذلك هو حل جزئي وآني وحسب، بل من شأنه مضاعفة المشكلة الأساسية. إذ على الرغم من التوتر والشحن، فإن العديد من الوافدين السوريين قد تمكنوا من تدبير أحوالهم بإيجابية، والعديد من صغار السن بينهم تفتحت عيونهم على مشهد لبنان والحياة به فيما بقي ارتباطهم بسوريا نظرياً وحسب. ولو كانت الأوضاع كما في سائر أنحاء العالم، لكان المرتقب من هؤلاء جميعاً أن يستقروا في ديارهم الجديدة، ويضيفوا إلى زخمها الاقتصادي ويساهموا بضمان أمنها. إلا أن الأوضاع في لبنان خارجة عن المعتاد.
اختلال التوازن السكاني
لبنان يعيش على أساس معادلة متخيلة تفترض أنه كيان سياسي يضم جماعتين، «المسيحيون» و «المسلمون»، متساويتين في التمثيل عند كافة مستويات الحكم. وواقع الجماعة المسيحية الواحدة يتابع اقترابه بالفعل من التحقق منذ عقود قليلة، مع انتقال الطوائف المسيحية إلى موقع المذاهب الإيمانية ضمن المجتمع المسيحي الواحد. أما في الشق الثاني من المعادلة المتخيلة، فليس في لبنان جماعة اسمها «المسلمون»، بل الهوية الذاتية للمسلمين اللبنانيين هي صفتهم الطائفية، فهم «سنة» أو «شيعة» أو «دروز». والانشطار السياسي في السياسة اللبنانية هو أساساً بين الزعامة السنية والزعامة الشيعية، فيما الأطراف المسيحيون (والدروز) يتموضعون في هذا الصف أو ذاك. والتنافر الحاد لا يقتصر على الزعامات، بل هو يطال القواعد الشعبية، وإن سعت الكتلة الشيعية والتي تهيمن عليها إيران إبراز سياسيين سنة لنقض مقولة الانقسام السني الشيعي والذي يؤذي مساعيها للاستقطاب.
وحيث أن النزوح السوري إلى لبنان في غالبيته العظمى هو لمواطنين سوريين سنة، فإن اعتبار أي استمرار في التواجد السوري على المدى البعيد ينطلق من تأثيره المزدوج على المعادلة القائمة في هذا الوطن ذي الاستقرار الوهن. فعند أخذ عدد المقيمين السوريين في لبنان بالحسبان، تنخفض نسبة المسيحيين بخطورة إلى ما دون مستوى العشرين بالمئة، ما يجعل المحافظة على المناصفة السياسية القائمة بين المسيحيين والمسلمين، وهي المرتبكة للتوّ، أكثر صعوبة، ويزيد من تخوّف المسيحيين أن لا مستقبل لهم هنا ويدفع المزيد منهم إلى الهجرة. بل المسألة الأكثر إشكالية، في حال قدّر للسوريين الاستقرار في لبنان، هي في اختلال التوازن العددي بين السنة والشيعة، فهاتان الطائفتان اليوم تتقاربان عددياً، فيما تحظى الطائفة الشيعية بأفضلية سياسية مستمدة من قوة حزب الله العسكرية. فأية إضافة إلى الوزن السني من خلال السوريين إذ يضمر عديدهم البغض لحزب الله الذي شارك في مأساتهم، تسقط المعادلات القائمة وتفتح إمكانية التوظيف من جانب المنظمات المتشددة لزعزعة الاستقرار.
والجلي أنه في حين أن بعض الأطراف الدولية قد استعرض إمكانية توطين النازحين السوريين في لبنان، فإن كافة الأطراف المحليين، سوريين ولبنانيين، مسيحيين ومسلمين، سنة وشيعة، مجمعون علناً على رفض هذه الفرضية. ولكن هذا الرفض المدوي، وإن صاحبته مطالبة متكررة بعودة السوريين إلى بلادهم، لا يشكل حلّاً للخطر الوجودي المحدق بلبنان.
والواقع أن الخطر الوجودي الحقيقي المرتبط بالسوريين بلبنان ليس نابعاً من اللاجئين، بل من إمكانية توظيفهم أو تسخير قضاياهم من جانب النظام في دمشق. فبعد أن نجح النظام بـ «تطهير» مساحات واسعة من الأراضي ذات المواقع الاستراتيجية الهامة في الداخل السوري، مجلياً عنها سكانها ومنزلاً فيها في حالات عدة سكان آخرين لا شوائب حول ولائهم له، ليس لهذا النظام مصلحة بإعادة السكان المطرودين، فهم بنظره إما إرهابيين معادين له أو حاضنين للإرهابيين، وإعادتهم تستوجب تخصيص موارد أمنية جمّة لضبطهم، دون أن ينتج عن هذه العودة ما يحقق للنظام المصلحة. والأهم في هذا الحساب هو أنه في حين أن إعادتهم تشكل عبئاً على النظام، فإن بقاءهم في لبنان يجني له الفوائد.
دمشق في لبنان
والواقع أن الخطر الوجودي الحقيقي المرتبط بالسوريين بلبنان ليس نابعاً من اللاجئين، بل من إمكانية توظيفهم أو تسخير قضاياهم من جانب النظام في دمشق. فبعد أن نجح النظام بـ «تطهير» مساحات واسعة من الأراضي ذات المواقع الاستراتيجية الهامة في الداخل السوري، مجلياً عنها سكانها ومنزلاً فيها في حالات عدة سكان آخرين لا شوائب حول ولائهم له، ليس لهذا النظام مصلحة بإعادة السكان المطرودين، فهم بنظره إما إرهابيين معادين له أو حاضنين للإرهابيين، وإعادتهم تستوجب تخصيص موارد أمنية جمّة لضبطهم، دون أن ينتج عن هذه العودة ما يحقق للنظام المصلحة. والأهم في هذا الحساب هو أنه في حين أن إعادتهم تشكل عبئاً على النظام، فإن بقاءهم في لبنان يجني له الفوائد.
ذلك أن النظام ينشط بإعادة بسط سيادته على كل ما خسره. واستعادة هيبته لا تتحقق بمجرد البقاء، بل بالعودة الكاملة إلى موقع البطش الذي كان له قبل البدء بالتراجع. والتاريخ الفعلي للتراجع هذا ليس ٢٠١١، يوم بدا وكأن النظام ابتدأ السير نحو الهاوية، بل ٢٠٠٥ يوم تعرّض هذا النظام لأول إذلال وهزيمة، إذ اضطر وسط انتفاضة شعبية عارمة أن يسحب جيوشه من لبنان وأن ينكفئ مطأطأ الرأس بعد ثلاثة عقود من البطش والقوة الغاشمة. ومع ذلك بالتأكيد، نظام دمشق لم يتخلّ يوماً بالكامل عن تواجده في لبنان.
أولوية النظام اليوم هي العودة إلى المحافظات السورية الخارجة عن سيطرته، والاهم من ذلك في أجندة النظام السوري هو السيطرة على الجارة الغربية، حيث حافظت الأجهزة الأمنية والمخابراتية التابعة للنظام السوري على اتصالاتها وزرعت عملاء جدد منذ أن انسحبت سوريا من لبنان. والانتخابات النيابية الأخيرة التي شهدها لبنان تضمنت عودة صريحة لبعض حلفاء سوريا العلنيين إلى المجلس، بما يفيد بأن دمشق لا تزال فاعلة في السياسة اللبنانية. وإعادة النفوذ والتأثير والقدرة على الإكراه في لبنان، مع ما يصاحب ذلك من مكافأة الأصدقاء ومعاقبة الخصوم، تندرج في إطار المسلك الثابت للنظام القمعي في دمشق، وهي كذلك تأكيد منه أمام عموم الجمهور السوري بأنه للأبد وأن قادر على تخريب البلد.
فزعزعة الاستقرار الناتجة عن أي بقاء طويل الأمد للنازحين السوريين في لبنان هي أمر إيجابي من وجهة نظر النظام في سعيه إلى العودة إلى لبنان. يكفي النظر إلى سجل هذا النظام في توظيف المنظمات الجهادية وغيرها من المجموعات العنيفة، ليتبين أن ثمة ما يبرر خشية أن يدفع جماعات ضمن جمهور اللاجئين، من حيث تدري ومن حيث لا تدري، إلى أعمال تحقق غاياته. وإذا شجع النظام أو سهل ارتكاب عمليات ضد وكلاؤه الوحيدين أو ضد أهداف رئيسية، فإن هذه الإجراءات قد تؤدي إلى الدعوة إلى وجود عسكري سوري مباشر في لبنان مرة أخرى.
والبعض قد يرى في عودة التأثير السوري إلى لبنان جانباً إيجابياً، إذ يقحم دمشق وحلفاءها المحليين بصراع على النفوذ مع إيران وأدواتها. أما الواقع، فهو إن العودة السورية إلى لبنان، في زمن سوريا نفسها في قبضة إيران، هو أمر يرضي إيران، والتي لا يطيب لها أن يظهر لبنان، حيث تقبع أنجح تجاربها لتصدير الثورة، إذ أن والسيطرة المباشرة ستفقد إيران جزءًا كبيرًا من فوائد تأثيرها هناك. كما أن من مصلحة إيران أن ينغمس الأطراف الغربيون وغيرهم بأوهام السعي إلى فصل دمشق عن طهران، إذ أن سعيهم إلى استقطاب سوريا ينضوي حكماً على تأجيل الخطوات العدائية إزاء إيران.
من الصعب استبيان الأسباب التي قد تدفع نظام دمشق إلى الامتناع عن مسعى العودة إلى لبنان. والنتيجة المتراكمة لهذه العودة ولتداعيات استدامة بقاء اللاجئين السوريين على الأراضي اللبنانية تشكل دون شك خطراً وجودياً تمكنت جمهورية التوازنات الدقيقة اللبنانية إلى اليوم من أن تتجنبه.
حسن منينمة
معهد واشنطن