ستبقت الأطراف المعنية بالمفاوضات النووية بين إيران ومجموعة دول (5+1)، والتي أُجرِيت جولتها الأولى في العاصمة النمساوية “فيينا” يوم 12 مايو 2015 بتصريحات متبادلة وصلت في بعضها إلى حد التلويح باستخدام القوة العسكرية من جانب الطرفين الساعيين للتوصل لصيغة تفاهم نهائية قبل الموعد المحدد مسبقاً لذلك في 30 يونيو 2015 وفقاً لما سبق التوصل إليه في مفاوضات الاتفاق الإطاري الأخير الذي تم توقيعه يوم 2 أبريل الماضي.
وقد أكد وزير الخارجية الأمريكي “جون كيري” خلال جولته الأخيرة في الشرق الأوسط ثم فرنسا على استمرارية طرح الخيار العسكري حال الفشل في التوصل لصيغة نهائية تؤدي للتأكد من التزام إيران بوقف أنشطتها النووية المشكوك في سلميتها، والتجاوب مع الأطروحات الدولية في هذا الشأن، وكذلك شدد نائب الرئيس الأمريكي “جو بايدن” على وضع كافة أدوات القوة الأمريكية لمنع إيران من التسلح نووياً.
على الجانب المقابل، ذكر مرشد الثورة الإيرانية “على خامنئي” في خطاب ألقاه يوم 6 مايو 2015 على أن “بلاده تواجه تهديدات من جانب أعدائها، وأنه شخصياً لا يفهم معنى التفاوض تحت التهديد كسيف مسلط على رأس الأمة الإيرانية، وأن هذه الأمة لن تقبل التفاوض في ظل التهديد”، مشيرا إلى أن “عهد التهديد قد ولى، وأن أي اعتداء على إيران لن يمر بهذه البساطة، وأن الشعب الإيراني سيلاحق وينتقم ممن اعتدوا عليه”، كما وجه خطابه للمفاوضين الإيرانيين بـ “الاستمرار في المفاوضات مع الالتزام بالخطوط الحمراء الأساسية، وأنه في هذا الإطار إذا توصلوا لاتفاق فإنه لا خطأ في ذلك، مطالباً إياهم بعدم الرضوخ لأسلوب الفرض والقوة أو الإهانة والتهديد”.
واستجابة لخطاب “خامنئي”، فقد أكد مساعد قائد الحرس الثوري الإيراني العميد “حسين سلامي” أن إيران أعدت نفسها لخوض حرب طويلة الأمد مع الولايات المتحدة، وعلى المفاوضين الإيرانيين مغادرة مائدة المفاوضات إذا واجهوا التهديد مرة أخرى، محذرا من تبعات إقدام واشنطن على شن أي هجوم ضد بلاده، مضيفاً أن زمن استخدام القوة العسكرية قد انقضى، وأنه لا ينبغي للولايات المتحدة مقارنة انتصاراتها السابقة على جيوش هزيلة. في حين شدد قائد الحرس الثوري الجنرال “على جعفري” على أن إيران ترحب بخوض الحرب مع الولايات المتحدة، وأنه على الأخيرة الحذر من تداعيات هذه المغامرة.
مواقف الأطراف الرئيسية المعنية بالمفاوضات ونتائجها
تستعد الإدارة الأمريكية للدخول في المراحل النهائية للمفاوضات النووية مع إيران لإنجاز اتفاق نهائي قبل الموعد المحدد مسبقاً بنهاية يونيو 2015، وهي تواجه ضغوطاً حقيقية على كافة الأصعدة بشأن هذه المفاوضات، سواء من الداخل أو من جانب حلفائها في الشرق الأوسط من دول مجلس التعاون الخليجي، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، وكذلك من إسرائيل.
أولاً: الضغوط الداخلية على الإدارة الأمريكية: لاشك أن إدارة الرئيس “باراك أوباما” تواجه ضغوطاً متصاعدة من جانب الكونجرس الأمريكي لمنعه من الاستئثار والانفراد بتحقيق نجاح على صعيد المفاوضات النووية مع إيران، وهو ما تحقق يوم 14 مايو الجاري مع موافقة مجلس النواب بأغلبية 400 صوت مقابل رفض 25 صوتاً على تشريع يعطي الكونجرس الحق في مراجعة، وربما رفض أي اتفاق نووي دولي مع إيران، والذي قد يضطر الرئيس أوباما إلى التصديق عليه بعد إقراره من مجلسي النواب والشيوخ؛ وبالتالي سوف يقيد الكونجرس أوباما في التصديق على نتائج المفاوضات النهائية حيث سيكون لديه الحق في مراجعة ونقض الاتفاق حال وجود عوار فيه، فضلا عن أن هذا الاتفاق –إن تم التوقيع عليه – ستتبعه مسألة رفع العقوبات، والتي سبق فرضها والتصديق على عديد منها من جانب الكونجرس.
وحقيقة الأمر، فإن نجاح إدارة “أوباما” وانفراده بذلك سوف يعزز من وضعية الديموقراطيين خلال المرحلة القادمة، لاسيما مع اقتراب موعد انتخابات الرئاسة الأمريكية في 8 نوفمبر 2016، مما سيعطي للحزب الديموقراطي ومرشحه القادم زخماً حقيقياً، خاصة أن قوى داخلية مؤثرة في العملية الانتخابية ستستفيد من مسألة حل الخلاف مع إيران خاصة شركات النفط التي ستحظى بفرص استثمارات حقيقية في هذا القطاع في إيران، والتي تحتاج بدورها هذه التكنولوجيا لتحديث هذا القطاع لديها، فضلا عن المجمع الصناعي العسكري بمختلف قطاعاته الذي سيحقق بدوره مكاسب واسعة في مجال تحديث أسطول النقل الجوي الإيراني، أو من خلال مبيعات السلاح الجديدة لدول الخليج العربي التي ستسعى بدورها لعقد صفقات نوعية في ظل تحسبها من تنامي الخطر الإيراني الذى سيتجاوز حدوده وفقاً للتقديرات فيما بعد الاتفاق النووي ورفع العقوبات، خاصة مع السعي للوفاء بمقتضيات الاتفاقيات الأمنية الجديدة بين دول الخليج العربي والولايات المتحدة.
ثانياً: موقف دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية: تتحسب دول مجلس التعاون الخليجي بشكل عام من نمط الحركة الإيرانية التوسعي في إقليم الشرق الأوسط، والتي بدأت إرهاصاتها منذ أمد وصولا للتعقيدات الحالية، والتي تشكل فيها الحركة الإيرانية عاملاً مشتركاً أدى لتزايد النفوذ الإيراني وتأثيره المباشر في عدد من الملفات الحيوية في كل من سوريا ولبنان والعراق واليمن، فضلا عن مسألة أمن الخليج العربي.
ورغم محاولات الطمأنة من جانب الولايات المتحدة، فإن واقع الأحداث يلقي بظلاله على الموقف خاصة مع تقاطع المصالح الواضح، وتأثيرات النفوذ الإيراني المتمدد على الأمن القومي لدول الخليج والأمن القومي العربي.
وقد تزايد هذا القلق مؤخراً مع وجود إدراك كامل لاتجاه إدارة الرئيس “أوباما” وحرصها على التوصل لاتفاق متكامل مع الدولة الإيرانية والنتائج المرتبطة جراء هذا الاتفاق من رفع للعقوبات، مما سيؤدي حتماً لتعزيز عناصر القوة الشاملة للدولة الإيرانية، وهو ما سيمنحها مجالاً أوسع للحركة سيصب في صالح تكريس نفوذها الإقليمي ورفع مستوى أهميتها على الصعيد الدولي، خاصة مع توقع تكالب عديد من الدول على الدخول معها في مشروعات اقتصادية عملاقة، مما سيؤثر على الوضعية الاستراتيجية لدول الخليج العربي سلباً؛ الأمر الذي نتج عنه تشكك دول الخليج في مصداقية الولايات المتحدة رغم الاجتماعات التشاورية في “كامب ديفيد”.
ثالثا: التحسب الإسرائيلي من تنامى الدور الإيراني: دأبت إسرائيل حت قبل بداية العملية التفاوضية بين مجموعة الدول الكبرى وإيران على التشكيك في النوايا الحقيقية للبرنامج النووي الإيراني، وما يمثله من تهديد على أمن إسرائيل، بل وعلى استمرارية وجودها، وشككت دائما ًفي جدوى المفاوضات في ضمان تقويض الطموحات النووية الإيرانية ومدى التزام إيران بمضمون هذه الاتفاقات.
وقبل التوصل للاتفاق الإطاري الأخير سعى رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” للحشد ضد الحركة الأمريكية الرامية لإنجاز هذا الاتفاق، وقام بزيارة للولايات المتحدة لأجل ذلك؛ مما أسفر عن حدوث حالة من الفتور في العلاقات بينه وبين الرئيس الأمريكي. ورغم كون المسألة ارتبطت جزئياً بالانتخابات الإسرائيلية الأخيرة، والتي فاز فيها الليكود على خلفية تكريس البعد الأمني ومنه ما يرتبط بإيران، فإن الأمر لا يتوقف فقط على القضية النووية الإيرانية بل يتجاوزها لما هو أبعد من ذلك، إذ يرتبط أيضاً بالمنظومة الصاروخية الإيرانية وإمداد “طهران” حلفائها في لبنان “حزب الله” وحركتي “حماس” و”الجهاد الإسلامي” في فلسطين بالسلاح، فضلا عن التواجد الفعلي لإيران في كل من سوريا ولبنان، وهو ما سوف يتزايد حال رفع العقوبات عنها.
والأهم من كل ذلك، فإن إعادة اندماج إيران في المنظومة الدولية وكسر حالة الاحتواء التي ظلت قائمة منذ وصول النظام الحالي للسلطة في عام 1979، وإعطاء هذا النظام المشروعية الدولية بشكل كامل، مما سيؤدي حتماً لتكريس قدرته على البقاء وتشكيل ذلك ضغطاً على إسرائيل التي طالما عملت على التشكيك في نواياه، وكسبت من جراء ذلك تعاطفاً واسعاً باعتبار أن بقائها ظل مهدداً نتيجة التحركات الإيرانية المعادية لها، وبما سيحدث خللا في الميزان الاستراتيجي بعيدا عن مصالحها.
انعكاسات المفاوضات النهائية على سلوك طرفيها الرئيسيين
رغم لجوء الطرفين الرئيسيين المعنيين بالمفاوضات إلى صيغة التهديد، فإن واقع الأمور يؤكد على وجود نوايا حقيقية للتوصل لاتفاق متكامل لتسوية المسألة النووية الإيرانية تضمن التأكد من سلمية البرنامج النووي الإيراني -إلى حين- مقابل مسعى إيراني لرفع العقوبات الاقتصادية بشكل فوري عقب التوقيع على الاتفاق النهائي في ظل ما تمثله هذه العقوبات من ضغط على النظام الحاكم في إيران، وتحد من قدرته على الحركة، كما تزيد من حالة الاحتقان الداخلي ضده.
من جانب القوى الدولية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، تمثل المفاوضات تحدياً جدياً لإدارة الرئيس “أوباما” التي تسعى لتحقيق نجاح يحسب لها ويزيد من شعبية الديموقراطيين بالنسبة لإدارة ملفات السياسة الخارجية، الأمر الذي سيصب في صالح مرشحهم خلال الانتخابات الرئاسية القادمة، خاصة أن الغالبية العظمى من المواطنين الأمريكيين يرفضون الدخول في مغامرات عسكرية جديدة، لاسيما بعد تجربتي أفغانستان والعراق، كذلك فإن التوصل لتفاهم متكامل مع إيران سيفتح المجال لمزيد من التعاون فيما يتعلق بالقضايا الحيوية بالشرق الأوسط، والتي تؤثر فيها إيران بشكل جدي، في ضوء وجود رغبة أمريكية في إشراك إيران في الترتيبات المستقبلية الخاصة بكل من سوريا والعراق وملف مكافحة الإرهاب والتنظيمات المرتبطة به.
أما بالنسبة للنظام الإيراني، فإن مسألة تجاوز الضغوط الاقتصادية التي تشكلها العقوبات المفروضة على الدولة الإيرانية أصبحت قضية حيوية بالنسبة لمصداقية النظام أمام مواطنيه الطامحين في تخطي هذه المرحلة، والفشل في إنجاز هذه المسألة سيتحمله النظام أمام الداخل، خاصة مع ارتفاع سقف تطلعات الإيرانيين من وراء النتائج اللاحقة لرفع العقوبات الاقتصادية والاندماج في المجتمع الدولي، علاوة على احتمال انعكاس هذا الأمر على أوضاع الحريات السياسية والاجتماعية، رغم تحسب النظام لمردود هذه التأثيرات على قدرته مواصلة نهجه الذي أبقاه في السلطة طيلة هذه الفترة، حيث اعتمد بالإساس نهجاً ثورياً متحدياً للقوى الغربية، وتحديداً الولايات المتحدة، الأمر الذي يستلزم من القائمين عليه العمل على إدخال قدر من التعديلات لتواكب مقتضيات المرحلة الجديدة.
ارتباطاً بما سبق، فإن المراحل القادمة من المفاوضات، والتي بدأت أولاها يوم 12 مايو الجاري ستشهد ضغطاً متزايداً على المفاوض الإيراني، وهو ما قدر له متخذ القرار في إيران المتمثل في المرشد “علي خامنئي” الذي أعطى واقعياً “التوجيه الاستراتيجي” بالاستمرار في النهج التفاوضي، ومنح المفاوض الإيراني قدراً من حرية الحركة للتوصل لصيغة نهائية، رغم ما بدا في تصريحاته من تشدد، حيث يأتي هذا التشدد في إطار دعائي أمام الداخل لإظهار قوة النظام أمام الخارج، تمهيداً للترويج للتنازلات الإيرانية التي سيسفر عنها الاتفاق النهائي، وإطلاق صورة ذهنية إيجابية عن قدرة النظام الإيراني على توجيه العملية التفاوضية للاتجاه الذي طالما عمل النظام الثوري على بلوغه، فضلا عن التمهيد للدخول في علاقات متشعبة مع الولايات المتحدة عقب ذلك، بما يتناقض واقعياً مع ما دأب النظام على إظهاره طيلة العقود الماضية واعتبار “واشنطن” العدو الرئيسي للنظام الإسلامي في إيران.
مصطفى سالم
مركز المستقبل للابحاث والدراسات المتقدمة