تذكّر تعقيدات المشهد الأميركي التركي الراهن بتلك التي لبّدت سماء العلاقات البريطانية العراقية بموجات كثيفة من التوتر والخطابات، وكذلك القرارات المتشنجة، قبل ثمانية وعشرين عاما. ولعل وجود مفردة “التجسّس” هي مفتاح المشهدين، في بغداد وأنقرة، كما هما في لندن وواشنطن .
حكمت محكمة عراقية، في 10 مارس/ آذار 1990، على فرزاد بازوفت، بالإعدام بتهمة التجسّس لصالح “إسرائيل وبريطانيا”، وقيدت الحكومة العراقية هذا الأمر باعترافات للرجل ظهر فيها عبر شاشات التلفزيون العراقي، ليشرح للمشاهدين كيف استغل صفته المهنية “صحافيا مستقلا يعمل لصالح صحيفة أوبزيرفر”، ليصل إلى مواقع سرية تابعة لمنشآت التصنيع العسكري العراقي بالغة السرية، ثم ليتم بعدها إلقاء القبض عليه في مطار بغداد (صدّام) الدولي، وبحوزته صورا للمواقع، وكذلك عينات من التربة لموقع انفجارٍ كان قد حدث لإحدى هذه المنشآت المتخصّصة بصناعة الصواريخ جنوبي بغداد.
وما بين صدور قرار المحكمة وتنفيذ عقوبة الإعدام بحق بازوفت، تعاملت بريطانيا رسميا وعلى لسان رئيس حكومتها، مارغريت ثاتشر، بكثير من العنجهية والاستخفاف مع حكومة العراق، فيما يفترض أن تكون من أبرز العارفين بحجم حساسية رئيس العراق، صدّام حسين، بشأن الجاسوسية. وبدل أن تستخدم ثاتشر أسلوب الدبلوماسية الهادئة مع الأمر، لجأت إلى
التهديد المهين، وقد علق الرئيس العراقي حينها على سلوكها بالقول “يبدو أنها تعتقد أن العراق قطعة من الكعك، تلتهمها متى حلا لها. لا شكّ في أنها تظن أن بوسعها التدخل في شؤوننا متى أرادت، والخروج بنوع الناتج الذي يصبّ لمصلحتها في الانتخابات”. كما قال وزير الخارجية حينها، طارق عزيز: “لو أن وزيراً بريطانياً زار العراق في إطار مشترك، وناقش أمر السجين البريطاني مع سيادة الرئيس، لأصدر (صدّام) عفوه عنه”.
جهل رئيسة وزراء بريطانيا بطبيعة السلوك الانفعالي غالبا لقادة الشرق الأوسط، أو ربما تعمّدها إثارة هذا السلوك في موضوع يتعلق بصدّام حسين، وتأثر الأخير، المباشر والسريع، بخطب ثاتشر وتصريحاتها، وأخذها على محمل شخصي مهين، دفع فرزاد بازوفت إلى حبل المشنقة بعد خمسة أيام فقط من صدور حكم الإعدام بحقه، وهو أمر لم يكن ليثير غضب المملكة المتحدة وحفيظتها فقط، بل أدى إلى قيام حملة دولية، غربية تحديدا، ضد العراق، وطريقة حكم صدّام حسين له، بما أربك العلاقات العراقية – الغربية إلى حد كبير، فيما كان مجرد وجود بازوفت في السجن، والتلويح بقضيته بين حين وآخر، ورقة ضغط ومساومة لملفات عديدة، كان العراق في حاجةٍ لحسمها، أو الاستفادة منها، بعد حرب الثماني سنوات مع إيران.
موضوع بازوفت وتداعياته، وتعامل رأسي الحكومتين، البريطانية والعراقية، الانفعالي معه، قريب جدا من موضوع القس الأميركي، أندرو برونسون، الذي تحتجزه تركيا لديها بتهمة التجسّس والارتباط بحزب العمال الكردستاني وجماعة فتح الله غولن (الإرهابيين، بحسب أنقرة)، حيث يتعامل كل من الرئيسين الأميركي دونالد ترامب والتركي رجب طيب أردوغان، بأسلوب المساس والرد المباشر على كل جملة أو كلمة تصدر من هذا الطرف أو ذاك، بما أدخل تركيا من جهةٍ في أزمةٍ مسّت قيمة عملتها الوطنية، وأوصلتها إلى مستويات منخفضة في سعر الصرف، كما وضع هيبة الولايات المتحدة أمام شعبها وقيادات الرأي فيها على محكّ توتر كبير مع حليف استراتيجي لها ولحلف شمال الأطلسي (الناتو) في منطقة بالغة الحساسية، هي تركيا.
قد تفضي العنجهية التي تتعامل بها الدول إزاء قضايا يمكن أن تحلّ دبلوماسيا إلى تغيير هائل في واقع (ومستقبل) العلاقات الدولية القائمة بين الدول نفسها، إضافة إلى تغيير في حجم (وطبيعة) التحالفات القائمة، وموازين القوى ومناطق النفوذ الأقليمية والعالمية، فالانفعالية في إدارة الأزمات والصراعات هي بالتأكيد حاجبة للرؤية الصحيحة، وبالتالي القرارات المتخذة بشأنها؛ فتركيا لا يمكن لها أن تضحّي بكل إنجازاتها ومستقبل نموها وتقدّمها خلال عقد ونصف من الزمن، بسبب انسياقها وراء تصريحاتٍ وقراراتٍ لرئيس أميركي، وصف بالـ”التهور” والفردية بقراراته، وهي أكثر وعيا وقدرة على التحكّم بمجريات الأمور، من دون الانسياق العاطفي وراء الـ”أنا”، التي ربما كانت إحدى خصال صدّام حسين.
القس الأميركي أندرو برونسون موجود في تركيا منذ فترة طويلة، وجرى اعتقاله في عام 2016 بعد محاولة الانقلاب هناك، بتهمة العمل لصالح حزب العمال الكردستاني وفتح الله غولن، لكن حقيقة الأمر أبلغ وأقوى من هذا الاتهام؛ نعم، فبرونسون قال في جلسة الاستماع في محاكمته إنه “لا يوجد دليل ملموس ضدّه، وإن تلامذة المسيح عانوا باسمه، والآن دوري. وأنا رجل بريء من كل هذه التهم وأرفضها، وأعرف لماذا أنا هنا، أنا هنا لأعاني باسم المسيح”؛ لنلاحظ حجم الرمية التي يرميها، وخطورتها، ليعطي شكلا خطيرا وكبيرا لقضيته أمام التصوّر
الغربي أصلا عن الحكم في تركيا، والذي باتوا قريبين جدا من تشبيهه بالدولة العثمانية، وما تعنيه هذه الدولة من بسط نفوذ وسيطرة إسلامية على مساحات واسعة من أوروبا في حينه.
يؤكّد الرئيس دونالد ترامب نفسه على الاتجاه الخاص بالقسّ برونسون، حيث وجه كلامه وتغريداته مرّات عدة للرئيس أردوغان بالقول: “أطلق سراح القس برونسون الآن”، فيما يرى أردوغان أن الضغط على واشنطن بقضية القس أفضل السبل لعقد صفقة تبادل تسلم أميركا بموجبها المعارض التركي فتح الله غولن، وإن بدا أن الطريق إلى تحقيق هذه الصفقة قد أدخل البلاد في حرب اقتصادية مع أميركا. ولكن، ومع وجود رئيس أميركي على شاكلة ترامب، فإن مستقبل هذا التوتر بين البلدين يمكن أن يكون لصالح تركيا، فيما لو ابتعدت الإدارة التركية عن إدارة الملف بشكل انفعالي وشخصي، ولجأت إلى ضبط النفس وتحكيم سلطة القانون في موضوع محاكمة القس برونسون، كما أن الدعم المالي الذي أبدته قطر في أكثر أوقات تدهور الليرة التركية، والموقف الروسي الداعم للتعامل المباشر مع الليرة التركية من دون التعامل بالدولار الأميركي، ومواقف أوروبية وآسيوية عديدة، أرسل رسالة مهمة إلى العالم، وإلى واشنطن تحديدا، بإن لدى تركيا حلفاء مهمين في المنطقة، وأنها لن تتراجع عن موقعها دولة محورية عالمية وإقليمية مهمة، تماشيا مع غضبة أو تغريدة لرئيس أميركي مثير للجدل.
فارس الخطاب
العربي الجديد