في رسالته المسجلة الأخيرة، رسم البغدادي طريقا لـ”داعش” لإعادة التجمع وتنظيم الصفوف. وفي إحدى الفقرات الرئيسية، دعا إلى شن هجمات ينفذها مهاجمون وحيدون في الدول الغربية، بما في ذلك التفجيرات، والدهس بالسيارات، والهجمات بالأسلحة النارية والسكاكين. وفي السابق، كانت مثل هذه الدعوات تصدر فقط عن المتحدث السابق باسم “داعش”؛ أما أن تأتي من الخليفة المعلن ذاتيا نفسه، فإن ذلك سيعطيها وزنا أكبر على الأرجح.
* * *
منذ ما يقرب من عام، تساءل مراقبو تنظيم “الدولة الإسلامية” عما إذا كان أبو بكر البغدادي، قائد المجموعة، ما يزال على قيد الحياة. لكنه عاد إلى الظهور يوم الأربعاء، 19 آب (أغسطس)، للمرة الأولى منذ 11 شهرا، عندما أطلق خطابا مسجلا بمناسبة عيد الأضحى. وفي الخطاب الذي استغرق 55 دقيقة –الأطول من بين خطاباته التي تم الإعلان عنها- أشار البغدادي إلى عدد من الأحداث الأخيرة، مما يدل على أن تسجيل الخطاب تم خلال الأسابيع القليلة الماضية.
جاء الخطاب وسط تقارير عن عودة ظهور “داعش” في مناطق ديالى وصلاح الدين وكركوك في العراق، وهي كلها مناطق خسرتها المجموعة الإرهابية منذ عدة سنوات. وبشكل عام، فقدت المجموعة حوالي 98 في المائة من المناطق التي كانت تسيطر عليها ذات مرة. وجاء الخطاب أيضا في أعقاب تقديرات مدهشة صدرت عن كل من البنتاغون والأمم المتحدة، والتي قالت أنه ما يزال لدى المجموعة أكثر من 30 ألف مقاتل في العراق وسورية. كما كانت المنظمات التابعة للتنظيم في دول مثل أفغانستان ومصر أكثر فتكا ونشاطا بشكل ملحوظ في الأشهر الأخيرة. وبعبارات أخرى، يبدو أن “داعش” قد مر بمرحلة انتقالية منظمة، من الخلافة إلى التمرد، من دون أن يتمزق التنظيم. وفي خطابه، نسج البغدادي المكتسب جرأة جديدة على تاريخ داعش –الميليشيا الصغيرة ضمن شبكة كبيرة من الجماعات المتمردة التي تشن حربا ضد الأميركيين – في سعيه إلى حشد المؤمنين.
بصرف النظر عن افتتاحية الموعظة، رسم خطاب البغدادي طريقا لـ”داعش” لإعادة التجمع وتنظيم الصفوف. وفي إحدى الفقرات الرئيسية، دعا إلى شن هجمات ينفذها مهاجمون وحيدون في الدول الغربية، بما في ذلك التفجيرات، والدهس بالسيارات، والهجمات بالأسلحة النارية والسكاكين. وفي السابق، كانت مثل هذه الدعوات تصدر فقط عن المتحدث السابق باسم “داعش”؛ أما أن تأتي من الخليفة المعلن ذاتيا نفسه، فإن ذلك سيعطيها وزنا أكبر على الأرجح. حتى أن البغدادي وضع تقديرا لتوقعاته: هجوم واحد في الغرب يساوي ألفا في الشرق الأوسط –وهو معدل يذكر بحملة الإرهاب التي شنها الجيش الجمهوري الإيرلندي في بريطانيا منذ عقود مضت، والتي قالت إن قنبلة واحدة في بريطانيا تعادل في قيمتها 100 في ايرلندا الشمالية. ويعرف “داعش”، مثل القوميين الإيرلنديين العنيفين من قبله، أن مثل هذه الهجمات ستحقق المزيد من الدعاية وتثير ردود فعل أكبر بكثير من ذبح 200 من المدنيين الدروز في جنوب سورية، أو تفجير سيارة في قلب بغداد.
كما أدعى البغدادي أن أميركا دونالد ترامب تعاني من انهيار عصبي نتيجة لحربها التي استمرت عقدين ضد الجهاديين في المنطقة. وأشار إلى التوترات بين واشنطن وأنقرة بسبب قيام تركيا بسجن القس الأميركي أندرو برونسون، والعقوبات الأميركية ضد تركيا، ورفض حكومة أردوغان الالتزام بنظام العقوبات الأميركي ضد إيران. كل هذا يحدث، كما يقول، بينما “رقعة الجهاد آخذة في التوسع”. وفي واقع الأمر، بخلاف خطابات البغدادي السابقة التي عبر فيها عن غضبه من الاختلال الداخلي للتنظيم وخسائره في الأراضي، بدا هذه المرة واثقا من قدرة مجموعته على الصمود أمام العاصفة الحالية وتخطيها.
لشرح الكيفية التي سيتحول بها “داعش” إلى حركة تمرد، أشار البغدادي إلى الماضي. وردد كلمات أبي مصعب الزرقاوي، المؤسس الأصلي للمجموعة، من العام 2006: “لقد اشتعلت الشرارة هنا في العراق، وسوف تستمر نارها في الاشتعال حتى تحرق الجيوش الصليبية في دابق”، البلدة الواقعة في شمال سورية، والتي ستكون، وفقاً لبعض تفسيرات التراث الإسلامي، موقع معركة ملحمية بين الجيوش الإسلامية والمسيحية. ويشير “داعش” في كثير من الأحيان إلى بيان الزرقاوي ذاك على أنه نبوئي، لأنها لم تكن هناك أي علامات بعد على عدم الاستقرار في سورية في الوقت الذي قاله فيه. وفي نقطتين في خطابه، أشار البغدادي إلى العراق كمصدر للشرارة، وقال أنه تم تجديد الحرب بعد فقدان الأراضي.
كما أشار البغدادي إلى المقاتلين القبليين السنة الذين ساعدوا الولايات المتحدة في إخراج تنظيم “دولة العراق الإسلامية”، سلف تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش)، من المدن والبلدات السنية في العام 2007. وعلى الرغم من تفوق أعدائه عليه في العدد، أطلق تنظيم دولة العراق الإسلامية حملة ناجحة طوال سنوات للقضاء على هؤلاء المقاتلين السنة، كجزء من استراتيجية تم التعبير عنها أيضا باستخدام نسبة: رصاصة واحدة ضد المحتل الأميركي، وتسع رصاصات ضد المرتدين. واقترح البغدادي في كلمته أن معظم قوة المرء يجب أن تتركز على العدو في الداخل.
في خطابه، دافع البغدادي عن تكتيك توصل إليه “داعش”، بنجاح كبير، مرات عديدة: العمل على تآكل الفصائل السنية من خلال مزيج من عمليات القتل والتجنيد المستهدف. ووعد بأن يلاقي المتمردون السوريون نفس المصير. كما ناشد المقاتلين في صفوف تلك الفصائل أن يهجروا قادتهم “الغادرين”، الذين اتهمهم بالخيانة بعد سلسلة من صفقات الاستسلام التي أبرموها مع النظام السوري.
وفي إشارة أخرى إلى القبائل السنية، أشار البغدادي إلى أن القوات العراقية ما تزال تعتمد بشكل كبير على قوة النيران الأميركية لصد هجمات “داعش”. وقال إن مقاتلي التنظيم قاموا بملاحقة أفراد من القبائل الكبيرة في العراق في وضح النهار، على الرغم من النداءات المتكررة التي وجهها زعماء العشائر إلى الميليشيات الشيعية والحكومة في بغداد طلبا للحماية. وخلال الصيف، بدا أن “داعش” يستهدف قادة المجتمع المحلي، وقادة الميليشيات وقوات الأمن بحصانة وإفلات من العقاب. وقامت الميليشيات بنصب الكمائن للقوات الموالية للحكومة التي ما تزال تستنجد بالغارات الجوية الأميركية لاحتواء حتى الهجمات الصغيرة التي يشنها “داعش”. وفي الآونة الأخيرة، على سبيل المثال، كان حوالي 20 مقاتلا قد سيطروا تقريبا على منشأة نفطية ضخمة في قلب منطقة يقوم بتأمينها التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة في دير الزور، ليتم تحييدهم فقط بواسطة الضربات الأميركية.
وتحدث البغدادي أيضا عن نية جماعته نشر نفوذها عبر المنطقة – وهي ثيمة متكررة في تصريحات “داعش” منذ أن بدأ يفقد قوته في العام 2016. وقد حاولت المجموعة مناشدة السعوديين من خلال التحدث بلغة الإسلام الأصولي المقبولة هناك، كما حاولت مناشدة المصريين باستخدام حملة السيسي السياسية في مصر. وفي حزيران (يونيو) 2017، ضرب “داعش” داخل طهران، عاصمة إيران، في أول هجوم من نوعه في تاريخ الجهاد السني. وقد هاجم المسلحون البرلمان الإيراني وضريح مؤسس الجمهورية الإسلامية الإيرانية، آية الله روح الله الخميني، وأسفر الهجوم عن مقتل 17 شخصا. وكان ذلك جزءا من محاولة الجماعة التقليل من شأن تنظيم “القاعدة” الذي تجنب المواجهة مع إيران، ولكي تعرض نفسها على أنها المدافع عن السنة ضد جميع أعدائهم.
وإذن، ليس البغدادي خليفة ناقما يندب خلافته المفقودة. بل يبدو أنه قد تجاوز هذه المسألة، وأصبح يسعى الآن إلى إلهام جماعته ليعيدوا تأمل أعظم نجاحاتهم من أجل رسم مسار إلى المجد في المستقبل. وقد أوضح خطابه أن “داعش” يتذكر دروس العقدين الماضيين بشكل جيد للغاية. أما إذا كان أعداؤه يفعلون ذلك أيضاً، فهو الفرق بين النصر والهزيمة.
حسن حسن
الغد