سلام سرحان
لا يمكن النظر إلى تسارع انفجار الاحتجاجات والأوضاع الأمنية في مدينة البصرة بمعزل عن مخاض تشكيل حكومة عراقية جديدة، تميل فيها التوقعات لصالح كتل سياسية، تدعو علانية إلى تحرير العراق من النفوذ الإيراني.
كما لا يمكن فصل الأزمة عن تسارع اختناق الاقتصاد الإيراني وهو ينحدر إلى موعد الضربة القاضية عند دخول المرحلة الثانية من العقوبات الأميركية، التي ستقطع شريان الحياة الاقتصادية الوحيد وهو صادرات النفط بحلول 5 نوفمبر المقبل. وقد ظهرت بوادر ذلك بانهيار العملة الإيرانية.
ينبغي التأكيد على أن محنة سكان البصرة جريمة بشعة وأن خروجهم للاحتجاج أمر حتمي، لكن تلك الملفات الإيرانية الساخنة يمكن أن تتدخل لتحويلها إلى انفجار شامل قد يصل إلى انهيار الأمن وسقوط أعداد كبيرة من الضحايا.
لكن في جميع الجرائم، ينبغي أولا البحث عن المستفيد من وقوعها، وفي أزمة البصرة الحالية تشير جميع أصابع الاتهام إلى إيران، التي أطلقت شرارة قطع إمدادات الكهرباء وفاقمت أزمة المياه في البصرة.
لا يمكن الاستهانة بالصراع الشرس الذي يمكن أن تخوضه الميليشيات المرتبطة بنظام ولاية الفقيه الإيراني للدفاع عن وجودها ومصالحها المالية ومستقبل زعاماتها، ناهيك عن الدفاع عن مصالح طهران، التي ينحدر نظامها إلى طريق مسدود يهدد بقاءه.
هل من الصدفة أن يتزامن الإعلان عن تحالف واسع من الكتل السياسية يسعى لانتزاع القرار العراقي من قبضة إيران، مع انطلاق شرارة انهيار العملة الإيرانية التي تراجعت من 109 آلاف ريال للدولار إلى نحو 146 ألفا أي أنها فقدت أكثر من ربع قيمتها خلال 3 أيام ونحو 72 بالمئة منذ مايو الماضي.
قد يرجع البعض سبب التراجع إلى إعلان البنك المركزي الإيراني عن توسيع قيود إنفاق احتياطاته المالية، وقد يكون ذلك شرارة إضافية، لكن السبب العميق هو خطر تشكيل حكومة عراقية تلتزم بالعقوبات الأميركية وتغلق النافذة الرئيسية لتخفيف قسوة العقوبات الأميركية.
انتزاع العراق من نفوذ إيران سيكون معركة شاقة، وميدان البصرة يمكن أن يكون أكبر ساحاتها الساخنة، في ظل وجود ميليشيات مدججة بالسلاح يصل عدد أفرادها إلى مئات الآلاف من المقاتلين، وهي مستعدة لحرق العراق دفاعا عن النظام الإيراني، الذي يرتبط بقاؤها ببقائه؟
طهران وصلت إلى مرحلة اليأس من إمكانية تخفيف قسوة العقوبات المقبلة، حين عجزت حتى الدول المعارضة للعقوبات الأميركية مثل ألمانيا وفرنسا وبريطانيا عن إقناع شركاتها بمواصلة التعامل مع طهران، والتي تسابقت للابتعاد في عملية إجلاء جماعي غير مسبوقة.
ولا يبدو أن روسيا والصين يمكن أن تقدما حلولا لأزمة طهران، في وقت تشتبكان فيه في نزاعات ومفاوضات مع واشنطن على ملفات كثيرة، ويمكن أن تبيعا إيران مقابل تفاهمات مع الإدارة الأميركية.
هل يصعب على الميليشيات في صراعها الخطير للبقاء ولحماية النظام الإيراني، أن تتسلل إلى الاحتجاجات لتأجيجها وصولا إلى انهيار الوضع الأمني في المحافظة المسؤولة عن معظم صادرات النفط العراقية؟
ينبغي أن نشير إلى أن معظم شرارات معاناة البصرة انطلقت من إيران. وكانت الأولى بقطع إمدادات الكهرباء المتعاقد عليها قبل نحو 3 أشهر، ثم جاءت الشرارة الثانية من ارتفاع ملوحة المياه بعد قطع إمدادات نهر الكارون وضخ إفرازات المبازل والمياه الملوثة في هور الحويزة، التي تنتهي سمومها في شط العرب.
لا يمكن لإيران الصمود أمام العقوبات الأميركية غير المسبوقة إلا باستمرار النافذة العراقية مفتوحة للنفوذ الإيراني. وسيعني تشكيل حكومة عراقية تلتزم بالعقوبات، مضاعفة معاناة إيران وربما تسريع انهيار النظام الإيراني.
ويبدو أن الوصول إلى إرباك صادرات النفط العراقية، رغم صعوبته في ظل إدراك بغداد لخطورة ذلك، هو أكبر أهداف إيران، لأنه يمكن أن يجبر واشنطن على مراجعة قرار تقييد الصادرات الإيرانية.
لا يمكن استبعاد أن تسعى طهران وميليشياتها في العراق إلى تأجيج الأوضاع في البصرة لمواجهة احتمال تشكيل حكومة بعيدة عن نفوذها.
ولن تتوانى عن دفع الانفجار للوصول إلى إرباك صادرات النفط العراقية، الذي يمكـن أن ينـقذ صـادرات النـفـط الإيـرانيـة. العالم اليوم يجد صعوبة في تعويض التراجع الوشيك في الإمدادات الإيرانية، التي تبلغ حاليا 2.3 مليون برميل يوميا، إذا ما انخفضت إلى أقل من مليون برميل يوميا بعد تقييدها في نوفمبر المقبل.
لكن إرباك الصادرات العراقية يمكن أن يضع الاقتصاد العالمي أمام سيناريو خطير. وقد يدفع الأسعار إلى مستويات غير مسبوقة قد تصل إلى 150 دولارا للبرميل، بسبب عدم وجود طاقة إنتاج إضافية لدى المنتجين لتعويض إمدادات البلدين.
ويمكن لتعطيل صادرات نفط العراق أن يفتت عزم واشنطن على خنق الإمدادات الإيرانية، لأن الرئيس الأميركي دونالد ترامب يشكو منذ الآن من ارتفاع أسعار النفط ويضغط على منتجي منظمة أوبك لزيادة الإنتاج.
الأزمة الخانقة التي تعاني منها إيران تتفاقم يوما بعد يوم رغم أنها لا تزال تصدر النفط والغاز والبتروكيماويات، ولا تجد طهران اليوم أي أمل لتفادي الاختناق التام إلا عبر إحراق العراق، الذي يحاول الإفلات من نفوذها، وهي التي لديها عقدة تاريخية اسمها العراق.
تدرك طهران، التي تقترب من الاختناق التام، أن عزم واشنطن على إيقاف جميع صادراتها النفطية سيقطع شريان الحياة الوحيد وقد يؤدي إلى ثورة عارمة تنهي النظام الحاكم. ويبدو أن صب الزيت على نيران احتجاجات البصرة السلمية هو الحل الوحيد لإنقاذها من الهاوية من خلال استمرار صادراتها النفطية وإبقاء العراق مدمرا في قبضة النفوذ الإيراني.
العرب