بعد أن كان العراق يسمى في ماضيه “أرض السواد” لشدة خضرته، حيث يتدفق رافداه بلا انتهاء، ليحيلاه إلى جنة خضراء، باتت ارض الرافدين اليوم تعاني من اتساع رقعة المناطق الصحراوية. وباتت العاصمة بغداد وأغلب المدن العراقية تعاني من مشكلات التغير البيئي الناتجة عن الإهمال الكبير لواقع البيئة في البلاد، ولعل أبرز هذه المشكلات تتمثل في كثرة العواصف الترابية التي بدأت تهب على المدن العراقية بشكل كثير التكرر. وبجانب ذلك فقد ارتفعت معدلات تلوث الهواء بسبب انتشار مصادر حرق الوقود وعوادم السيارات ومولدات الطاقة الكهربائية وغيرها من الأنشطة الصناعية الأخرى. كما أن هناك العديد من مسببات التلوث الأخرى مثل مصانع الأسلحة العراقية السابقة في زمن النظام السابق ومواقع وكالة الطاقة الذرية واستخدام مختلف أنواع الأسلحة والذخائر خلال الحروب. وتتزايد حالات تلوث الهواء وتردي نوعيته بشكل ملفت للانتباه، في حين لم تتوفر لحد الآن أي مبادرات للتقليل من مستويات الملوثات البيئية في هواء.
وتسببت الحروب والنزاعات المسلحة في العراق على مدى أربعين سنة بملايين الوفيات والإصابات. قساوتها لم تترك ندوبها على قلوب الأبرياء فحسب، وإنما طاولت الأرض والماء والهواء. المزارع والغابات كانت فريسةً سهلةً لنيران الصراع، وكذلك المصانع ومكامن النفط والثروات الطبيعية، التي أدى تدميرها إلى انتشار التلوث في كل مكان.الحروب المتتالية أنهكت النظام الصحي في البلاد، وألحقت الضرر بالبنى التحتية الأساسية، وأضعفت الإدارة البيئية والرقابة على المنشآت والفعاليات الصناعية. والخطط التي وضعت بعد سنة 2003 لمعالجة هذه المشكلات لم تنجح في تحقيق أهدافها، لقلة الموارد وفقدان الأمن وتفشي الفساد. وهذا ما جعل القضايا البيئية الشائكة، مثل المخلفات السامة والمشعة والتلوث النفطي وفقدان الأراضي الزراعية، تتراجع على سلم الأولويات وتبقى في أغلبها مهملة. وباتت العاصمة بغداد وأغلب المدن العراقية تعاني من مشكلات التغير البيئي الناتجة عن الإهمال الكبير لواقع البيئة في البلاد، ولعل أبرز هذه المشكلات تتمثل في كثرة العواصف الترابية التي بدأت تهب على المدن العراقية بشكل كثير التكرر.
وفي ظل غياب الأرقام الدقيقة عن معدلات هذا التلوث لافتقار الجهات المعنية في العراق إلى المعدات والخبرات اللازمة، صدر مؤخراً تقرير دولي خاص بالبيئة العراقية، أعده فريق من الباحثين الأميركيين في “مركز دراسات الحرب” في نيويورك بالولايات المتحدة الأمريكية. وأشار التقرير إلى أن الغبار في العراق يحتوي على 37 نوعاً من المعادن ذات التأثير الخطير على الصحة العامة، إضافة إلى 147 نوعاً مختلفاً من البكتيريا والفطريات التي تساعد على نشر الأمراض.
إذا كانت البيئة في العالم تعد موضوعاً أساسياً يستقطب اهتماماً واسعاً، فقد أصبحت تحدياتها وذيولها الآنيّة ملحّة في العراق، كما يحدث اليوم في مدينة البصرة حيث أُصيب آلاف المواطنين بإصابات معوية نتيجة التلوث المائي بالنفايات الكيميائية والنفطية والبيولوجية.وهناك العديد من المسببات التي تؤثر في سلامة الماء والهواء والتربة ولها انعكاسات مباشرة على صحة المواطن العراقي. وليس هذا أمراً خفياً، فقد أصدر العديد من المنظمات الدولية كالأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية واليونيسكو والمنظمة الدولية للغذاء، تقارير تسلّط الضوء على جوانب التدهور البيئي في العراق، وعلى أهمية وحيوية وضرورة أن تقوم الجهات الحكومية العراقية المسؤولة بالاستجابة لهذه التغيرات البيئية بشكل فاعل متناسق بين المؤسسات العراقية ذات العلاقة، وتوعية المواطن العراقي عبر برنامج توعية مجتمعية يبدأ من الأسرة والمدرسة في سياق نشاط مجتمعي واسع. إن تحقيق مهمة الحفاظ على البيئة كي تكون آمنة وسليمة وخضراء وتتسع للجميع، هو حق من حقوق الإنسان في العراق، وتهمّ الجميع حكومةً وشعباً وحتى الأجيال القادمة.
حجم التلوث في العراق يعد كبيراً للغاية، حتى أن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي حدد في سنة 2005 ستين منطقة ساخنة تتطلب الإصلاح وإعادة التأهيل، من بينها خمس مناطق توجِب المعالجة الفورية. كما قدّرت تكاليف التدهور البيئي عام 2008 بنحو 8.7 بليون دولار وفقاً لأرقام رسمية.وفي السنوات العشر الماضية، كان لتكرار مواسم الجفاف مع انخفاض تدفق المياه في دجلة والفرات، إلى جانب سوء إدارة الموارد المائية والتوسع الحضري غير المدروس، الأثر الكبير في تملّح الأراضي الزراعية وانتشار التصحر ومحدودية مياه الشرب. وإلى جانب الأزمات الاقتصادية والاجتماعية العميقة، كان للمشكلات البيئية دور فاعل في تحضير الظروف الموائمة لتطوّر صراع جديد خلال السنوات العشر الأخيرة، تصدّر مشهده تنظيم «داعش».
وفي دراسة صدرت حديثًا عن المؤسسة البريطانية الحكومية (DFID) وتتناول أهم الظواهر البيئية في العراق. وقد اعتمدت الدراسة على مصادر رصينة منشورة داخل العراق وخارجه وأيضاً على شهادات من مؤسسات المجتمع المدني ومنظمات مهتمة بالبيئة العراقية مثل جمعية البيئة والصحة العراقية في المملكة المتحدة و«PAX» و«UNEP». وكانت هذه موضوع محاضرة ألقيتها في المركز الأنكلوعراقي في لندن في 25آب/أغسطس الماضي، والتي كانت ذات طابع تقييمي قدمتُ فيها إضافات لمعالجة النواقص التي تعاني منها الدراسة، خصوصاً مع عدم وجود حلول ومعالجات لأنها ركزت على وصف مظاهر التدهور البيئي في العراق.وتناولت الدراسة محاور مهمة هي: التغير المناخي، والجفاف، والموارد المائية، ومخاطر شح المياه، وإدارة الموارد المائية، والملوحة، والمياه الجوفية، وفقدان التنوع الأحيائي، وأهوار العراق، والتلوث البحري، والتلوث نتيجة النزاعات، والمواقع الملوثة والمواقع الخطرة في العراق، والتلوث نتيجة احتراق الآبار وتوسع القطاع النفطي، والأنقاض والنفايات، واستخدام الماء كسلاح. وكان المحور الثاني يتعلق بشحّ المياه الذي وصل في العراق إلى حالة غير مسبوقة. مائياً يعتمد العراق بالدرجة الأولى على مياه الأمطار والمياه السطحية، أي نهري دجلة والفرات وروافدهما ونهر شط العرب والمياه الجوفية. وأدت سياسات دول الجوار في بناء مشاريع عملاقة من السدود لري مناطق زراعية واسعة ولتوليد الكهرباء التي كانت بشكل انفرادي من دون تنسيق وتعاون مع الدول المتشاطئة، إلى تقليص نسبة المياه التي تصل إلى العراق وأدت إلى انخفاض حاد في معدلات المياه في نهري دجلة والفرات وشط العرب وتصاعُد غير مسبوق في مستوى الملوحة في شط العرب.
هذا هو وضع العراق الحالي الذي كان في العهود السابقة جزءاً من منطقة الهلال الخصيب وسلة غذاء العالم والآن يعاني من الجفاف والتصحر وتقلص الأراضي الزراعية الصالحة وعرضة للعواصف الترابية، وأصبحت البصرة والمحافظات الجنوبية تغلب عليها المناطق الجرداء بسبب موت النخيل وانعدام الغطاء النباتي في الأرض والتجريف الجائر للبساتين والنخيل. وضاعف المشكلة التلوث الكيميائي والجرثومي للمياه نتيجة رمي النفايات المنزلية والمخلفات الصناعية في الأنهار وعدم تصفية وتنقية المياه. لقد كُتب الكثير عن المعالجات الممكنة لهذه التحديات وعن إهمال الحكومات السابقة والحالية لتنظيف وصيانة القنوات والمبازل، وتحديث منظومة وطرق الري واستخدام طرق ري حديثة، ومراقبة ومحاسبة ظاهرة رمي النفايات والملوثات في الأنهار.
وفي السنوات العشر الماضية، كان لتكرار مواسم الجفاف مع انخفاض تدفق المياه في دجلة والفرات، إلى جانب سوء إدارة الموارد المائية والتوسع الحضري غير المدروس، الأثر الكبير في تملّح الأراضي الزراعية وانتشار التصحر ومحدودية مياه الشرب. وإلى جانب الأزمات الاقتصادية والاجتماعية العميقة، كان للمشكلات البيئية دور فاعل في تحضير الظروف الموائمة لتطوّر صراع جديد خلال السنوات العشر الأخيرة، تصدّر مشهده تنظيم «داعش».
برنامج الأمم المتحدة للبيئة (يونيب) أصدر أخيراً تقريراً حول القضايا البيئية في المناطق التي استردها «داعش»، لا سيما مدينة الموصل مركز محافظة نينوى. وكان فريق من شعبة ما بعد النزاعات في يونيب أجرى مسحاً ميدانياً ركز على التلوث الناتج عن إشعال النيران في آبار النفط في ناحية القيّارة، وإحراق معمل كبريت المشراق جنوب مدينة الموصل، إضافة إلى تسرب المركبات العضوية الثابتة المستخدمة كعوازل ومواد تبريد في منشآت الطاقة الكهربائية. كما عرض التقرير للتحديات البيئية التي تفرضها كميات الأنقاض والنفايات الهائلة، بما فيها الأسبستوس الذي لوحظ في أكثر من موقع. مدينة الرمادي هي أيضاً من بين المدن التي تعرضت أحياؤها وبنيتها التحتية لدمار واسع، وكذلك الأمر بالنسبة إلى مدينة الفلوجة، وإن بدرجة أقل. وفي سبيل توفير مواد البناء اللازمة لإعادة الإعمار، تسعى العديد من البلديات إلى تعديل التشريعات الوطنية التي تحظر تجريف الحصى والرمال من أحواض الأنهار. وفي حال نجاحها في تحقيق ذلك، فإن مشكلة تهدّم المساكن والمنشآت سترخي بعبئها الثقيل على النظم البيئية المائية، لا سيما في نهر دجلة.
تقرير يونيب سجّل أيضاً انهيار الإدارة البيئية من الناحية البشرية، وكذلك التخريب الذي طاول المنشآت والمختبرات التابعة لمديرية البيئة في محافظة نينوى وكلية العلوم البيئية في جامعة الموصل، وما يعني ذلك من أثر على جهود التأهيل وإعادة البناء. كما أشار التقرير إلى الانعكاسات الخطيرة لاستخدام «داعش» المنشآت المائية كسلاح في الحرب وإغراقه الأراضي بمياه بحيرات السدود، التي تسببت في تدهور الأراضي الزراعية وخلق إشكاليات اجتماعية واقتصادية طويلة الأمد.
إلى جانب التقرير الأولي الذي أصدرته يونيب، قامت منظمة «باكس» الهولندية بنشر تقريرها «الحياة تحت سماء سوداء» ضمن اللقاء الثالث لجمعية الأمم المتحدة للبيئة الذي عقد في نيروبي مطلع كانون الأول (ديسمبر) الماضي. ويمثّل التقرير إيجازاً للمعطيات التي جمعتها المنظمة في السنوات الثلاث الماضية، وهي تشمل كل الأراضي العراقية، بما فيها مدينة الموصل وجوارها، التي اقتصر عليها التقرير الأممي. ويمكن إيجاز القضايا البيئية التي تناولها التقريران في ثلاثة محاور: التلوث النفطي، أضرار المنشآت المدنية، الآثار الجانبية. لقد كانت البيئة العراقية الضحية الصامتة لعصابات «داعش» التي استهدفت آبار النفط والسدود واتبعت سياسة الأرض المحروقة وتخريب منظم للبيئة كحرق آبار النفط في القيارة ومصنع الكبريت في المشراق ومصفاة بيجي، وأيضاً إقامة مصافٍ نفطية بدائية، وتهريب النفط بشكل مستمر لغرض جلب موارد مالية لتمويل نشاطاتها الإرهابية. كما تركت أيضاً ملايين الأطنان من الأنقاض في المناطق المحررة.
أما على صعيد المعالجات والحلول فهي كالآتي:إيجاد جهاز إداري ومؤسساتي فاعل يجمع وينسق بين ذوي العلاقة بجهد منظم يهدف إلى تطبيق الاستراتيجيات مع تحديد واضح للموارد البشرية والمالية المطلوبة وتوفيرها، ويتماهى مع متطلبات التنمية المستدامة الخضراء، مثل مشاريع توفير الطاقة الشمسية وبناء محطات لإنتاج الطاقة الشمسية وتوليد الكهرباء واستخدامها في تحلية المياه وربطها بالشبكة الوطنية للكهرباء. وأيضاً تطوير مؤسسة لمراقبة التلوث، وإقرار سياسات للمعالجة الفعالة، منها منع التلوث البيولوجي والجرثومي والكيماوي كنفايات المعامل أو استخدام البنزين الذي يحتوي على الرصاص، والتقليل من انتشار المركبات العضوية والغبار نتيجة وسائط النقل والمولدات الكهربائية الأهلية والخلل في التعامل مع مياه الصرف الصحي وتنقية المياه ومنع النفايات بشكل عام والصحية منها بشكل خاص. ومن المهمات الأخرى إجراء مسوحات وبفترات زمنية محددة للماء والهواء والتربة خصوصاً في المواقع التي توجد فيها آليات عسكرية، وتوفير الأجهزة الحديثة، ورسم سياقات لمعالجة مصادر التلوث الإشعاعي وتبعاتها الصحية على المواطن العراقي.
ومن الضروري مباشرة هذه المعالجات لاسيما إذا علمنا خطورة الأمراض التي تنتج عن التلوث البيئي بمختلف أشكاله وهي على النحو الآتي:
أولًا- التلوث الجوي:
1-سرطان الدم والرئة.
2-أمراض الكبد.
3-أمراض الجهاز العصبي.
4-أمراض القلب.
ثانيًا: تلوث المياه:
1-أمراض الكلى كالفشل الكلوي.
2- سرطانات الجهاز البولي مثل سرطان المثانة.
3- أمراض الدم وسرطان الدم.
4-أمراض الجهاز الهضمي.
ثالثا- التلوث الإشعاعي:
1-سرطان الجلد.
2-أمراض العيون مثل التهاب الشبكية.
3- فقر الدم والعقم، وطفرة في الأجنة.
4- الحروق والأورام والتشوه الخلقي.
وهذه الأمراض المشار إليها آنفًا في حالة تزايد مستمر في العراق، بالإضافة إلى انخفاض معدلات الأعمار في المجتمع العراقي بالإضافة إلى كثرة الإصابة بالأمراض المزمنة التي تصيب الصغار والشباب بعد أن كانت تصيب الإنسان بمراحل متقدمة من العمر.
وحدة الدراسات العراقية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية