ربما يكون الفلسطينيون بصدد مواجهة نوع جديد من من الكارثة، والتي ستكون واحدة تكلفهم حصيلة أخرى من الخسائر الهائلة. لكنهم سبق وأن نجوا مسبقاً من كارثتين. ربما لا يكونون قد ازدهروا، لكنهم ظلوا على قيد الحياة وتضاعفت أعدادهم. ولن تنجح جهود ترامب في القضاء على الفلسطينيين كأمة، وإنما ستكون لها بالتأكيد عواقب وخيمة. وبعد أن تفشل هذه الجهود، سوف تقع على عاتق الولايات المتحدة وأوروبا الغربية مسؤولية النهوض أخيراً إلى مستوى الاضطلاع بمسؤولياتهما، واستخدام أصولهما الكبيرة من النفوذ لحماية حقوق الفلسطينيين بنفس المثابرة التي تحميان بها حقوق الإسرائيليين.
يوم الجمعة، 24 آب (أغسطس)، أعلنت وزارة الخارجية الخارجية الأميركية أنها ستنهي كل تمويل لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، وهي وكالة الأمم المتحدة التي تقدم العديد من الخدمات الأساسية للاجئين الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة والأردن ولبنان وسورية. وكانت ردود الفعل على هذا القرار سلبية في أغلبها.
البعض اعترضوا على قرار إدارة ترامب لأنهم يرون أنه يتعارض مع مصالح الولايات المتحدة. واعترض البعض عليه لأنه يهدد أمن إسرائيل. ويتحدث آخرون عن التداعيات الإنسانية الهائلة على ملايين اللاجئين الفلسطينيين الذين تخدمهم الأونروا.
هذه كلها مخاوف مهمة. لكن أحداً من المعترضين لم يلامس الهدف الأساسي لما تفعله إدارة ترامب -على ما يبدو بحث من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، من دون أي تشاور مع أي أحد آخر في الحكومة الإسرائيلية أو المؤسسة العسكرية الإسرائيلية. ليس هذا مجرد هجوم على الأونروا-مع كل ما ينطوي عليه ذلك من خطورة في ذاته. إنه محاولة لتدمير الحركة الوطنية الفلسطينية.
كما قلت دائماً ومنذ فترة طويلة، ليست القضية المفردة الأكبر والأهم في الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني منذ العام 1948 هي القدس، أو المستوطنات أو الحدود، أو حتى الأمن. إنها حق العودة الفلسطيني. وهي القضية الوحيدة التي لن تناقشها إسرائيل في المحادثات، والتي لن يفكر الإسرائيليون-ربما مع استثناءات قليلة جداً ممن ينتمون في معظمهم إلى أقصى اليسار- حتى في مجرد بحثها.
كما أن حق العودة هو أيضاً أساس الحركة الوطنية الفلسطينية منذ العام 1948. فعلى مدى سبعة عقود، كان هذا الحق هو القوة التي لا تقاوَم،والتي تقابل الهدف الثابت للقومية الإسرائيلية. وكان هذا الحق هوالقنبلة الموقوتة التي يمكن أن تنفجر في أي وقت، حتى لو أن المحادثات حول كل تلك القضايا الأخرى نجحت بشكل ما.
استمر حق العودة في حاضراً ولم تنطفئ جذوته بينما كان دبلوماسيون من إسرائيل والولايات المتحدة وأوروبا والأماكن الأخرى يجلسون مرتاحين مع اعتقادهم الواهم بأن الفلسطينيين سيقبلون ببساطة بنفيهم الدائم، وبأن هذا يشكل موقفاً إسرائيلياً مقبولاً، بمعنى أن بوسع أي من الطرفين القدوم إلى طاولة المفاوضات محتفظاً برؤيته الخاصة لما هو صحيح وعادل. لكن إلغاء حق العودة ما كان لينجح مطلقاً كناتج محدد سلفاً، لسبب بسيط هو أن فرض الإملاءات بشأن قضية بهذه الأهمية ستؤدي حتماً الحال إلى المزيد من اشتعال التوترات، وليس حلها.
لم يعكس ترامب وجهة السياسة الأميركية، كما قال البعض. وإنما قام، بدلاً من ذلك، بقذف السياسة مباشرة في الاتجاه الذي كانت تميل إليه من قبل. ولنتأمل كلمات دان شابيرو، الذي كان سفير باراك أوباما في إسرائيل. غرد شابيرو على تويتر: “أنا 100% مع أن نكون صادقين (مع الفلسطينيين) بشأن أنه لن يكون هناك حق عودة، أو أي نتيجة أخرى يمكن أن تقوّض إسرائيل كدولة يهودية. وأنا مع الصدق في إيضاح أن الصراع لا يمكن أن ينتهي إلا بدولتين لشعبين”.
وكما أوضحت المحللة لارا فريدمان، فإن “من الصعب أن تكون راعياً ذا مصداقية إذا كانت الولايات المتحدة قد قررت مسبقاً نتيجة حتمية -واحدة لم تتقرر من خلال مفاوضات ‘خذ وأعطِ’، وإنما من خلال تقرير الولايات المتحدة ما هو ضروري لإسرائيل وما الذي يستطيع/أو يجب أن يقبله الفلسطينيون”.
لكن ترامب يأخذ هذه الفكرة إلى مدى متطرف طائش وقاسي. وقد أشارت فريدمان أيضاً إلى أن “مواقف/أهداف ترامب وفريقة الجوهرية بشأن إسرائيل وفلسطين ظلت متماسكة وثابتة منذ أن تولى ترامب منصبه. وكان كل عمل مدمِّر نجم عنها متوقعاً تماماً”.
سواء كان الأمر يتعلق بتخليه عن حل الدولتين من دون طرح بديل (بما أتاح لسياسات نتنياهو ملء الفراغ)، أوغضه الطرف عن التوسع الاستيطاني، أونقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، وترديده كالببغاء كل فكرة تصدر عن اليمين الإسرائيلي فعلياً، أو هجماته التي لا هوادة فيها على الأونروا، فقد وجه ترامب سياسته الخاصة بإسرائيل-فلسطين في مسار واضح. وهو مدفوع باعتقاد اليمين الإسرائيلي، الذي يعتنقه بلا شك كل من جاريد كوشنر، وجيسون غرينبلات، وسفيره في إسرائيل، دافيد فريدمان –فريق ترامب لـ”السلام في الشرق الأوسط”- بأنه يمكن دفع الفلسطينيين، على العكس من الحكمة التقليدية، إلى التسليم والخضوع.
ترامب وموظفوه
إحدى المشاكل المهمة في إدارة ترامب هي أن الرئيس يقوم بإصدار تصريحات جريئة وغريبة، والتي غالباً ما يكون لها تأثير قوي على السياسة، بينما يعمل كبار موظفيه على شيء آخر. ولذلك، عندما غرّد خالد الجندي من معهد بروكنغز على تويتر بأنه “على عكس الإدارات الأميركية السابقة، حيث كان الاستقرار والأمن -والالتزام الأخلاقي- كلها عوامل مخفِّفة، فإن نهج ترامب تجاه الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي مدفوع بالكامل بالأيديولوجيا وبالاعتبارات (السياسية المحلية)”، فإنه كان محقاً. لكن هذا ربما لا يكون كل القصة.
لقد شارك كل من كوشنر وغرينبلات وفريدمان في الحركات اليمينية المؤيدة لإسرائيل منذ فترة طويلة. وعلى الرغم من أن هذه الحركات مدفوعة أيديولوجياً بكل تأكيد، فإنها تظل أيضاً استراتيجية من حيث النهج. وقد عارضت هذه الحركات اتفاقيات أوسلو وفكرة المفاوضات برمتها لأنها تعتقد أن المسار الدبلوماسي يقوم على فرضية خاطئة: أن القوة لا يمكنها أن تقرر نتيجة هذا الصراع.
ويفهم اليمين الإسرائيلي ونظراؤه الأميركيون جيداً عدم توازن القوى بين الفلسطينيين وإسرائيل. وهم يعتقدون أن عليهم سحق التطلعات الوطنية الفلسطينية، وأن إسرائيل يمكن أن تتعامل مع رد الفعل العربي والعالمي وتمتصه إلى أن ينحسر في نهاية المطاف. وقد تم توجيه سياسات ترامب بشكل غير متوازن ومعتقد بالعصمة نحو تلك النتيجة.
ملاحظة الجندي مهمة. يريد ترامب أن يرضي شيلدون أديلسون، أحد أكبر المتبرعين الجمهوريين، وأن يتمكن من بيع قصة لحل النزاع الإسرائيلي الفلسطيني على قاعدته. وإذا فعل ذلك عن طريق تحطيم الفلسطينيين، فمن غير المحتمل أن تهتم قاعدته بذلك. لكن هذه ليست سياسة ولا استراتيجية.
مع ذلك، تسعى ترويكا غرينبلات وكوشنر وفريدمان إلى وضع استراتيجية. وهم يأملون أن تكون واحدة يمكن أن تدعمها، حتى لو كان ذلك بالسرَ فقط، المملكة العربية السعودية ومصر والإمارات العربية المتحدة وأي طرف آخر يمكن أن يجلبوه إلى هذا الخط. وهم يعتقدون أن بإمكانهم فرض شروط على الفلسطينيين، والتي لا تترك لهم أي شيء يقاتلون من أجله، ثم يشترونهم بحزمة اقتصادية تجلب الاستقرار إلى اقتصادهم وتحسنه إلى الدرجة التي تجعلهم هادئين وهامدين إزاء افتقارهم إلى الاستقلال؛ الحياة “ستصبح أفضل”، بعبارات السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة، نيكي هالي.
حسب رؤية هؤلاء، فإن كل ما يتوجب على الفلسطينيين فعله هو أن يوافقوا على العيش تحت الاحتلال ويقبلوا مصيرهم بهدوء. ويبدو أن فريق ترامب لم يأخذ في اعتباره أنه لو كان بالإمكان إجبار الفلسطينيين على فعل ذلك، لكانوا قد أذعنوا في وقت ما على مدار السبعين سنة الماضية.
ترامب يأخذ السياسة الأميركية إلى المستوى التالي
في العام 2003، أرسل الرئيس جورج دبليو بوش رسالة إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون، والتي نصت على أنه يُتوقع من إسرائيل العودة إلى حدود 1967، ولا يُتوقع منها أن تسمح للاجئين الفلسطينيين بالعودة إلى الأراضي التي تشكل أراضي دولة إسرائيل. وبذلك، فإن تصرفات ترامب الرامية إلى تقرير أوضاع ما تم الاتفاق عليه على أنه “قضايا الوضع النهائي”عن طريق الإملاء، ليست معزولة وغير مسبوقة. لكن ترامب أخذها بكل بساطة إلى مستوى أبعد بكثير، فألغى إطار عمل الدولتين، وأوضح أن النمو الاستيطاني هو امتياز إسرائيلي، و”أزال القدس من على الطاولة”، وهو الآن يستهدف اللاجئين.
وهذا يغطي كل شيء إلى حد كبير. لن يتبقى أي شيء للتفاوض عليه. وكل هذا من فعل الولايات المتحدة وليس إسرائيل. فعلى الرغم من أن نتنياهو دفع بكل وضوح نحو هذا، ومن المرجح جداً أن يكون هو الذي قدح عود الثقاب الذي أشعلها، فإنها كلها بالكامل أعمال أميركية. وفي حقيقة الأمر، تُركت معظم الحكومة الإسرائيلية والمستشارين والخبراء خارج هذه المداولات بالكامل، ومن المحتمل كثيراً أن لا يكون الكثير من اليمين الإسرائيلي موافقاً على مثل هذا النهج المتهور.
لا يمكن لهذه الخطة أن تنجح. ويحتمل كثيراً أن تؤدي إلى العنف الذي لا شك في أن إسرائيل مستعدة لقمعه بقبضة من حديد. ومن المؤكد أنه سيزيد من عزلة إسرائيل عن أركان العالم الأكثر ليبرالية أو المؤيدة للفلسطينيين. لكن إسرائيل مستعدة لذلك، وقام نتنياهو بتعزيز علاقات إسرائيل بالقوى اليمينية في الولايات المتحدة وأوروبا وأماكن أخرى.
مع ذلك، سوف تكون للنفور الذي تخلقه إسرائيل لنفسها عواقب وخيمة في نهاية المطاف. لن يسيطر الجمهوريون على السياسة الأميركية إلى الأبد، ويؤدي الاشمئزاز من تعامل إسرائيل مع الاحتلال إلى خلق شعور بالكراهية وعدم التعاطف تجاهها في الكثير من أنحاء أوروبا وبين الليبراليين -حتى الليبراليين الموالين لإسرائيل- في الولايات المتحدة. وفي العالم العربي، لم يكن هناك في أي وقتهذا القدر من الانفصال حول القضية الفلسطينية بين القادة الذين يُعتقد أنهم ربما يوافقون على هذه الاتجاهات وبين المواطنين الذين يحكمونهم.
ربما يكون الفلسطينيون بصدد مواجهة نوع جديد من الكارثة، والتي ستكون واحدة تكلفهم حصيلة أخرى من الخسائر الهائلة. لكنهم سبق وأن نجوا مسبقاً من كارثتين. ربما لا يكونون قد ازدهروا، لكنهم ظلوا على قيد الحياة وتضاعفت أعدادهم. ولن تنجح جهود ترامب في القضاء على الفلسطينيين كأمة، وإنما ستكون لها بالتأكيد عواقب وخيمة. وبعد أن تفشل هذه الجهود، سوف تقع على عاتق الولايات المتحدة وأوروبا الغربية مسؤولية النهوض أخيراً إلى مستوى الاضطلاع بمسؤولياتهما، واستخدام أصولهما الكبيرة من النفوذ لحماية حقوق الفلسطينيين بنفس المثابرة التي تحميان بها حقوق الإسرائيليين.
*ميتشل بليتنيك: محلل سياسي وكاتب. وهو نائب الرئيس السابق لمؤسسة سلام الشرق الأوسط، والمدير السابق لمكتب بتسيلم في الولايات المتحدة: مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة. ظهرت كتاباته في كثير من المطبوعات: منها “ذا نيو ريبابليك”، “سان فرانسيسكو كرونيكل”، “نيويورك ديلي نيوز”، “هآرتس”، “تايمز أوف إسرائيل”، “مجلة +972″، “جوردان تايمز”، “يو. أن. أوبسيرفر”، “تقرير الشرق الأوسط”، “الحوار العالمي”، و”داي بلايتر فوير دويتش أون”، بالإضافة إلى مدونته الخاصة والكثير من المطبوعات والمواقع الأخرى. يحمل درجة الماجستير من جامعة ميريلاند، كلية مدرسة بارك للسياسة العامة.
الغد