أعلن الرئيس السوري بشار الأسد بدء عملية القصف المكثف لاستعادة إدلب، وهي آخر معقل رئيسي لقوات التمرد النظامية. تعج المحافظة الشمالية الغربية بالمدنيين السوريين النازحين داخليًا الذين فروا من مناطق أخرى من البلاد – حلب في كانون الأول/ديسمبر، والغوطة الشرقية في نيسان/أبريل، ودرعا في حزيران/يونيو – تحت وطأة القصف العشوائي الذي أطلقته روسيا والأنظمة السورية. وبحسب مسؤولي الأمم المتحدة، قد يضطر 800 ألف شخص إلى الخروج من المدينة والمحافظة في هذا الهجوم، إلاّ أنه لم يبقَ أمام اللاجئين أماكن كثيرة يذهبون إليها.
في وجه هذه الكارثة الإنسانية الوشيكة، لن يقدّم المجتمع الدولي سوى القليل. ويشار إلى أن إدارة ترامب تحذّر من أنها “سترد على أي هجوم يستخدم فيه النظام السوري الأسلحة الكيميائية”. ولكن مع تمركز القوات الروسية واستعدادها للقيام بعمليات قصف بحري وجوي، من غير المرجح أن يلجأ الأسد إلى أسلحة الغاز. وفي هذا السياق، أشار الرئيس ترامب في تغريدة إلى أنه لا يجب على الأسد أن “يستهدف محافظة إدلب بشكل متهور” وحذّر من أن “الروس والإيرانيين سيرتكبون خطأ إنسانيًا فادحًا إذا ما شاركوا في هذه المأساة الإنسانية المحتملة”. أمّا الروس فأجابوا بضرب إدلب.
في الوقت عينه، يواصل الإيرانيون ترسيخ “قوات القدس” الخاصة بهم والميليشيات الشيعية في المناطق التي يستعيدها النظام، مغيّرين بذلك التوازن الطائفي على الأرض. وإذا لم يوضع حد لذلك، سيواصل المحور الإيراني-الروسي-السوري تعزيز سلطته في جميع أنحاء المنطقة. كما ينبغي النظر إلى الادعاءات المتعلقة بالاحتكاك بين القوى الثلاث ببعض الشك. ففي حين أن مصالحهم قد تتباعد، إلاّ أنّ الروس لا يبدون أي رغبة في الابتعاد عن الإيرانيين أو الأسد، الذين يستمرون في إنكار استخدام الأسلحة الكيميائية.
ثمة واقع لا لبس فيه يتجلّى في أنّ الروس، وبسبب تقاعس الولايات المتحدة، أصبحوا الحكم الرئيسي في سوريا. وفي حال كانت الولايات المتحدة تريد منع إيران من تعزيز ممرّ برّي من سوريا إلى لبنان والبحر المتوسّط، فعليها أن تعمل من خلال الروس. وفي حال كانت الولايات المتحدة تريد أن تخفّف من مسار التصادم بين إسرائيل وإيران – مع أمل إيران بأن تهدّد إسرائيل عبر سوريا كما تفعل من خلال “حزب الله” في لبنان – فهي تحتاج إلى تعاون روسي. ولكنّ فلاديمير بوتين لا يفعل شيئًا بدون مقابل. ويبقى السؤال ما إذا كانت إدارة ترامب مستعدة لممارسة الضغط المطلوب.
يبدو أنّ الروس يتأرجحون في القول إنّه من غير الواقعي توقّع مغادرة الإيرانيين والميليشيات المتحالفة معهم، والسعي لمعرفة ما يمكن الحصول عليه نتيجة التوسّط في اتفاق مماثل. فخلال الشهر الماضي، قام نيكولاي باتروشيف، أمين سرّ مجلس الأمن الروسي، باقتراح مقايضة لمستشار الأمن القومي الخاص بالسيد ترامب، جون بولتون تتمثل بما يلي: مقابل قيام روسيا بإنشاء منطقة عازلة في سوريا، خالية من الميليشيات الإيرانية والشيعية المناهضة لإسرائيل، ستُسقط الولايات المتحدة العقوبات ضد إيران. ولكنّ السيّد بولتون رفض الفكرة. وأعلن بعد اجتماعه بالسيد باتروشيف عن أنّ الروس يريدون على الأرجح من إيران مغادرة سوريا. ولكن يبدو أنّ الروس مهتمّون أكثر بالتوسط في اتفاقيات محدودة، ومقابل ثمن.
من الناحية النظرية، يجب أن تكون الولايات المتحدة قادرة على عقد صفقة مؤاتية. وبوجود شراكة بين تركيا وإسرائيل، فإنّ موقف الولايات المتحدة أقوى من موقف روسيا. وقد اعترف مسؤولون إسرائيليون مؤخرًا بضرب 200 هدف إيراني في سوريا. لدى تركيا وجود عسكري في إدلب ومحيطها، كما تملك الولايات المتحدة قوات في شمال شرق سوريا. ومعًا، تسيطر الولايات المتحدة وشركاؤها على نحو 40% من الأراضي السورية.
لسوء الحظ، تواجه الولايات المتحدة أزمة في علاقاتها مع تركيا. فقد صعّد الرئيس رجب طيب أردوغان من لهجته في ردّه على العقوبات المفروضة من السيد ترامب ضد احتجاز تركيا للقس أندرو برونسون. ويجري السيد أردوغان محادثات مع الروس لمعرفة ما إذا كان يمكن فرض وقف إطلاق النار في إدلب. إلا أنّ الغارات الجوية الروسية بعد يوم من عقد قمة طهران بين أردوغان من جهة والسيد بوتين والرئيس الإيراني حسن روحاني من جهة أخرى قد تفتح الباب أمام الولايات المتحدة لإعادة ضمّ الرئيس التركي.
يتقاسم البلدان مصلحة استراتيجية في منع إيران وروسيا من توسيع وجودهما في سوريا. ويجب أن تتحقق واشنطن مما إذا كانت أنقرة ترغب في صياغة موقف منسّق تجاه الروس. ومؤخرًا، قام السيد ترامب بتعيين جيمس جيفري الممثل الخاص للوجود الأمريكي في سوريا. وتجدر الإشارة إلى أنّ السيد جيفري هو سفير سابق في تركيا يحظى باحترام السيد أردوغان.
تتشاطر الولايات المتحدة وتركيا وإسرائيل مصلحة في احتواء إيران وميليشياتها الشيعية في سوريا. وتتمتّع روسيا بالقدرة على تحقيق ذلك، إلا أنّها تريد خروج الولايات المتحدة من سوريا في المقابل. وقد تشترط إدارة ترامب انسحابًا أمريكيًا مقابل القيود التالية لنشاط إيران وميليشياتها الحليفة: لا قواعد عسكرية في سوريا؛ الحدّ من صواريخ أرض-أرض؛ عدم تصنيع الصواريخ أو أنظمة التوجيه المتقدّمة في سوريا أو لبنان؛ لا رادارات أو صواريخ دفاعية جوية جديدة من حيث النوعية؛ ومناطق عازلة خالية من أيّ وجود إيراني أو حليف بالقرب من تركيا أو إسرائيل أو الأردن.
لا يمنح السيد بوتين أيّ شيء بدون مقابل. وهذا ما يجب على إدارة ترامب القيام به إذا كانت تريد حماية المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط