الرجل الذي يدير فعليا سياسة إيران الخارجية

الرجل الذي يدير فعليا سياسة إيران الخارجية

كان محمد جواد ظريف وزيراً لخارجية طهران على مدى السنوات الخمس الماضية. وخلال هذا الوقت، أصبح وجهاً مألوفاً في الغرب، وكسب سمعته كواحد من الأشخاص الرئيسيين الذين يمكن التحدث إليهم لحل أي خلاف مع طهران. ويساعد في ذلك أنه كان قد ذهب للدراسة في كولورادو الأميركية، واكتسب الطلاقة في التحدث بالإنجليزية على الطريق –وأنه يتمتع بسمعة كونه واحداً من الشخصيات الرئيسية في معسكر المسؤولين الإصلاحيين في إيران.
مع ذلك، تضاءلت سلطة ظريف بشكل كبير على مدى العامين الماضيين. وعلى الرغم من أنه واصل جولاته للتحدث في الغرب، فقد حل محله في إدارة ملفات السياسة الإقليمية التي تهم طهران أكثر ما يكون –بما في ذلك وجود إيران في العراق وسورية واليمن- شخص أقل ظهوراً، وإنما أكثر نفوذاً بكثير: علي أكبر ولايتي، الذي يشغل منذ وقت طويل منصب مستشار السياسة الخارجية للزعيم الإيراني الأعلى، آية الله علي خامنئي.
سوف يكون أفضل شيء يفعله المهتم بفهم استراتيجية إيران الحالية للسياسة الخارجية هو أن يتأمل ما كان ولايتي يقوله في الوطن وخلال رحلاته التي تصبح أكثر تكراراً في المنطقة. وسوف يكون التحدي الحاسم أمام الغرب هو أن يفهم نظرة ولايتي العالمية المحافظة، والتي تتميز عن كل من براغماتية ظريف والعدوانية الأيديولوجية لمتشددي إيران.
على الرغم من أنه غير معروف نسبياً في الخارج، كان ولايتي لاعبا أساسيا في سياسة إيران ما بعد الثورية. ومثل ظريف، ارتاد الجامعة في الولايات المتحدة، ودرس الطب في جامعة جونز هوبكنز في الستينيات؛ لكنه، على النقيض من ظريف، رفض العادات والتقاليد الثقافية الأميركية عوضاً عن استيعابها. وبعد الإطاحة بالشاه، انضم ولايتي مباشرة إلى الحكومة، ليصبح في نهاية المطاف أطول وزير عامل لخارجية الجمهورية الإسلامية، حيث احتفظ بالمنصب طوال 16 عاماً بداية من العام 1981. وجاءت ولايته إلى نهاية في العام 1997، عندما كسب الإصلاحي محمد خاتمي، الذي أراد تعميق العلاقات مع الغرب، الانتخابات الرئاسية لذلك العام. وعندئذ، عينه خاتمي مستشاره الشخصي للشؤون الدولية.
في العام 2013، خرج خاتمي من هذا الدور الاستشاري ليتسابق على منصب الرئيس. وخلال ذلك السباق، ظهرت ملامح الإطار العام لملفه السياسي أول مرة في المشهد العام. وكان ولايتي في البداية جزءاً من تحالف فضفاض من المرشحين المحافظين المعارضين للمرشح المعتدل حسن روحاني والإصلاحي محمد رضا عارف. لكنه سرعان ما تحول خلال مسار الحملة إلى هدف لغضب تحالفه نفسه. وشن زميلاه المرشحان المحافظان، سعيد جليلي ومحمد باقر قاليباف، هجوماً على ولايتي بسبب دوره قبل عقد في السعي إلى إجراء المحادثات النووية مع الغرب، حيث رُبط سجله السابق في السياسة الخارجية بسجل روحاني. وبذلك أصبح ولايتي وروحاني حليفي مصلحة، واللذين يهب كل منهما للدفاع عن الآخر ضد المتشددين الذين عارضوا عقد أي محادثات مع الغرب على الإطلاق. وفي نهاية المطاف، عاد ولايتي للوفاء بالوعد الذي كان قد قطعه بالانسحاب من السباق لصالح مرشح تحالف المحافظين الأبرز، قاليباف، وهو أدى إلى تقسيم أصوات المحافظين بطريقة صبت في مصلحة روحاني.
بعد انتصار روحاني الانتخابي في العام 2013، نبذ المتشددون الإيرانيون ولايتي، ووصفوه بالخائن، ليعتنقه الإصلاحيون والمعتدلون بشكل متزايد. وفي وقت لاحق من ذلك العام، قام الرئيس الأسبق، علي أكبر هاشمي، بتعيين ولايتي رئيساً لمركز الأبحاث الاستراتيجية الأبرز في إيران. ومن ذلك الموقع، دافع ولايتي بشكل بارز عن مفاوضات ظريف النووية المباشرة مع الولايات المتحدة.
مع ذلك، تغير موقف ولايتي مرة أخرى في السنوات الأخيرة. ففي أعقاب وفاة رفسنجاني في العام 2017، تم انتخاب ولايتي ليحل محله كرئيس لمجلس أمناء جامعة أزاد الإسلامية، أكبر مؤسسة أكاديمية في البلاد والملاذ التقليدي للإصلاحيين. وعلى الفور، نفذ ولايتي عملية تطهير، والتي أسفرت عن طرد معظم مسؤولي الجامعة الموالين لرفسنجاني. ثم قام بطرد قائمة طويلة من الأساتذة الإصلاحيين، على الرغم من تصاعد الاحتجاجات العامة.
بعد انتخاب دونالد ترامب في الولايات المتحدة، تغير موقف ولايتي أيضاً تجاه الاتفاق النووي مع الغرب –المعروف باسم خطة العمل الشاملة المشتركة؛ وشرع في مقارنتها علناً بمعاهدتين سابقتين سيئتي السمعة من القرن التاسع عشر، واللتين كانتا قد أجبرتا إيران على التخلي عن السيطرة على المناطق التي أصبحت تشكل اليوم داغستان، وشرق جورجيا وأذربيجان وأرمينيا. وأعلن ولايتي في 31 أيار (مايو): “المشكلة الأخرى في خطة العمل الشاملة المشتركة هي عدم وجود نسخة فارسية (من الاتفاقية)، وهو ما يجعل المرء يشعر بأنهم يقللون من شأنه. حتى معاهدات جولستان وتركمنشاي بذلك (المحتوى) المهين كانت لهما نسخة فارسية”.
وفي نفس الخطاب، كرر ولايتي أيضاً شعارات المتشددين وانتقاداتهم ضد الصفقة، بينما يوجه انتقاده لرغبة روحاني في التفاوض من موقف الضعف وسط العقوبات الدولية: “حول قضية خطة العمل الشاملة المشتركة، قاموا بتقييد (توفير) المياه للناس وخبزهم بخطة العمل وأغلقوا البلد… حقنوا خيبة الأمل واليأس في المجتمع وقالوا لهم أن علينا التفاوض لحل المشاكل”.
إذا كان طموح ولايتي هو العودة إلى النعم الجديدة للمحافظين والمتشددين، فقد نجح في ذلك. وقد لاحظ حامد رضا مقدم فار، المتشدد المعروف جيداً والرئيس السابق لوكالة أنباء فارس، يوم 19 آب (أغسطس) أنه لا ينبغي لأحد أن يشك في مؤهلات ولايتي الثورية. وأعلن مقدم فار: “على العكس مما نسب إلى ولايتي في انتخابات 2013، فإنه شخصية ثورية. لم أكن أفترض أن يكون لديه مثل هذا الحماس للثورة الإسلامية على الرغم من كونه دبلوماسياً معروفاً”.
انقلب ولايتي ضد روحاني بالضبط في الوقت الذي تفقد فيه إدارة الأخير الدعم بين كل من النخب السياسية الإيرانية والجمهور الأوسع على حد سواء. ومنذ خروج ترامب من الاتفاق النووي في أيار (مايو)، كانت خطة العمل الشاملة المشتركة على حافة الانهيار، وفقد نهج روحاني وظريف المعتدل في السياسة الخارجية مصداقيته إلى حد كبير. ووفقاً للاستطلاعات التي أجرتها جامعة ميريلاند، فقد هبطت معدلات تأييد ظريف في إيران من 78 في المائة في العام 2016 إلى 43 في المائة في العام 2017. وفي الأثناء، يقول 61 في المائة من الإيرانيين أن لديهم نظرة إيجابية للغاية تجاه قائد نخبة قوات القدس شبه العسكرية، قاسم سليماني.
بعد أن نجح في تطهير سمعته من دعمه السابق لروحاني، مُنح ولايتي دوراً أكثر بروزاً في صياغة سياسة إيران الشرق أوسطية. وتم إيفاده بشكل متكرر إلى مناطق الصراع والعواصم في كل أنحاء المنطقة، حتى عندما يتعارض ذلك مع سياسات روحاني المفضلة في سورية واليمن. وعلى العكس من ظريف، لا يظهر ولايتي كثيراً من الإشارات إلى أنه مهتم بالتفاوض مع أي أحد –لا من خصوم إيران ولا حتى حلفائها المزعومين– حول سلام يكون مقبولاً من الطرفين. وقال لمحطة “روسيا اليوم” الروسية يوم 18 تموز (يوليو): “سوف تغادر إيران دمشق فقط بطلب من سورية. لن تغير إيران سياساتها الاستراتيجية في المنطقة، وكما ساعدت سورية والعراق، فإنها ستساعد اليمن أيضاً إذا أراد ذلك”.
من الواضح أيضاً أن أولويات ولايتي الجيوسياسية الأوسع نطاقاً تختلف اختلافاً كبيراً عن أولويات ظريف، كما انعكس في رحلاته الأخيرة إلى كل من الصين وروسيا لتعميق العلاقات مع هذه البلدان –وهي رحلات تعرضت لانتقاد كثيف من الإعلام الإصلاحي لأنها ألقت طغت على جهود وزير الخارجية لتعميق العلاقات مع القوى الغربية وألجأتها إلى الظلال. وفي القلب من استراتيجية ولايتي، ثمة شك عميق إزاء الغرب (في جزء منه لأنه ثبت أن الغرب غير جدير بالثقة -وإنما أيضاً لأن قوته تتدهور بشكل عام)، مقرون باعتقاد راسخ بأن إيران يجب أن تسعى إلى كسب حلفاء أقوياء في أي مكان آخر ربما تجدهم فيه، ولو أن ذلك يجب أن يكون من دون التنازل عن استقلال استراتيجيتها الخاصة بالعلاقات الخارجية. ويبدو هذا الموقف واضحاً في الشكوك التي يعبر عنها ولايتي علناً في قدرة أوروبا على الوفاء بوعودها بإدامة الاتفاق النووي. وقال عن مفاوضي أوروبا النوويين في مقابلة أجريت معه في 20 أيار (مايو): “الكلام المتناقض الذي يصدر عن المسؤولين الأوروبيين (يجعلنا) متشككين (إزاءهم)”.
في بعض الأحيان، يصف ولايتي هذا الوضع على أنه يبرر حاجة إيران إلى التحول نحو الشرق بدلاً من الغرب. وقال في خطاب آخر في أيار (مايو): “إن اتخاذ نظرة استراتيجية إلى الشرق هو أسهل شيء يمكننا عمله للتخلص من ألعاب الاختباء والبحث التي يمارسها الغربيون. يجب أن لا نتأثر بالمتغربين (الذين) يحبون باريس أكثر من موسكو”. كما دفع ولايتي أيضاً بمنطق متساوق ضد رواية في الإعلام الإصلاحي في إيران، والتي تقول بأن روسيا طعنت إيران في الظهر فيما يتعلق بمستقبل سورية. وقال ولايتي في نفس الخطاب: “نحن، وروسيا ومصالح الصين الوطنية نتداخل حول قضايا مختلفة، ويمكننا أن نعمل معاً. إن روسيا غير قادرة، ولا هي تخطط لإجبار إيران (على فعل شيء). كنا نعمل معاً في هذا البلد في مناطق دفاعية، وقد أعطونا كل شيء طلبناه، بشكل أو بآخر”.
لم يعد بوسع ولايتي أن يزعم بعد الآن أنه شخصية تعمل من خلف الكواليس؛ فقد كسب القوة لنفسه من خلال ممارسة العمل السياسي المفتوح –بالتقرب من المتشددين ودفع حليفيه السابقين، روحاني وظريف، بمرفقه إلى جانب. وقد سمح ذلك للأخيرَين بالرد عن طريق الترويج العلني للحاجة إلى اعتناق نهج براغماتي في السياسة الخارجية، والذي يحاول العمل مع أوروبا لإنقاذ الاتفاق النووي والعمل بتعاون مع الغرب في المنطقة. وقبل مغادرة إيران للقيام بجولته الأوروبية في تموز (يوليو)، قال روحاني: “هناك بعض القضايا الإقليمة التي كنا قد تحدثنا بشأنها مع أوروبا وسوف نواصل هذه المحادثات حول الدور الذي تستطيع إيران أن تلعبه في استقرار وأمن كل الشرق الأوسط، بما في ذلك سورية واليمن”. وفي الأثناء، يدعي عباس عراقجي، نائب رئيس الخارجية للشؤون السياسية، بأن المحادثات جارية حالية بين إيران وأوروبا بشأن التوصل إلى حل للأزمة اليمنية.
ولكن، حتى تنجح هذه المحادثات في اليمن، وفي نهاية المطاف في سورية، سوف يحتاج روحاني وظريف إلى كسب الدعم من المتشككين فيهما في المؤسسة السياسية الإيرانية، وسوف يتطلب ذلك أولاً تحقيق النجاح في إعادة تأهيل الاتفاق النووي مع أوروبا، وإطلاق مكاسبه الاقتصادية الموعودة منذ وقت طويل. وبهذا المعنى، سوف يعود إلى المسؤولين في الغرب أن يقرروا من هو الذي يفضلون التعامل معه في طهران على المدى الطويل –وإذا ما كان صعود ولايتي السياسي سيوصله إلى قمة السلطة في أي وقت قريب.

روح الله فقيهي

الغد