في وقت سابق من الأسبوع الثاني من أيلول/سبتمبر الحالي، وبعد مضي ثلاثة عشر عاماً على اغتيال رئيس وزراء لبنان السابق رفيق الحريري في انفجار سيارة مفخخة في بيروت، قدم الادعاء العام أخيراً مرافعته الختامية في “المحكمة الخاصة بلبنان”، وأفصح عن أمرين هامين. أولاً، هناك أدلة وافرة تثبت العلاقة بين أعضاء قيادة «حزب الله» ومرتكبي جريمة القتل، من بينها تفاصيل تحركاتهم واتصالاتهم قبل الهجوم. ثانياً، كان النظام السوري في صلب المؤامرة أيضاً.
علاقة «حزب الله»
تركزت المرافعات الختامية (التي تم نشرها عبر الإنترنت على شكل ملفينPDF، اقرأ الجزء الأول والجزء الثاني) على صلات الحزب مع المتهمين الأربعة سليم جميل عياش، وحسن حبيب مرعي، وأسد حسن صبرا، وحسين حسن عنيسي. ووفقاً للمدعي العام، اعترف الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصر الله مراراً وتكراراً بهذه العلاقة، وبحقيقة أن “الشبكة الخضراء” السرية التي استخدمها المتهمون كانت في الواقع جزءاً من جهاز أمن «حزب الله».
وكانت بيانات الاتصالات الدليل الرئيسي المستخدم لإثبات هذه الصلات، إلى جانب السياق السياسي في ذلك الوقت والانتماء السياسي للمتهمين. وإجمالاً، بحث الادعاء العام في أكثر من ٣ آلاف دليل واستمع إلى ٣٠٧ شهادات شهود قبل أن يخلص إلى أن هجوم شباط/فبراير عام ٢٠٠٥ قد تم تنفيذه كجزء من مهمة معقّدة متعددة الأوجه، لا يمكن أن تكون إلاّ نتاج مؤامرة.
كما أنّ أحد أهم الإنجازات التي حققها الادعاء العام هو إظهار الكيفية التي كان يجري فيها رصد تحركات الحريري خلال زيارته الشهيرة لنصر الله في حارة حريك – التي هي جزء من ضاحية بيروت – في كانون الأول/ديسمبر ٢٠٠٤ وبعد تلك الزيارة – هذا على الرغم من أن الحريري وفريقه الأمني لم يعلموا بموقع الاجتماع مسبقاً. ومع ذلك، فإن أبرز ما تم الكشف عنه في الأسبوع الثاني من أيلول/سبتمبر الحالي هو الإشارة إلى رئيس الجهاز الأمني في «حزب الله»، وفيق صفا، الذي يبدو أنه كان صلة الوصل بين الجماعة والنظام السوري. ووفقاً للمدعي العام، “كان صفا على اتصال مكثّف مع [المسؤول العسكري الكبير في «حزب الله» مصطفى] بدر الدين وعياش، مباشرة قبل النشاط التحضيري النهائي في الساعات الأولى من صباح التفجير”. وعشية عملية الاغتيال، رُصدت هواتف صفا وبدر الدين في المنطقة نفسها. بالإضافة إلى ذلك، نسّق عياش مع بدر الدين بهدف إجراء مراقبة مسبقة للحريري وشراء شاحنة “ميتسوبيشي كانتر” تم استخدامها في تنفيذ التفجير.
العلاقة السورية
لطالما قام رئيس الاستخبارات العسكرية السورية في لبنان في ذلك الوقت، رستم غزالة، بزيارة “حارة حريك” وكان على اتصال دائم مع صفا. وقال الادعاء العام إن ذلك النشاط بدأ في ظروف محددة للغاية، أي بعد اجتماع المعارضة اللبنانية في “فندق بريستول” في بيروت بعد حادثة شباط/فبراير عام ٢٠٠٥، حيث طالب المشاركون بإنهاء الاحتلال العسكري السوري. وأشار التقرير إلى أن زيارات غزالة والاتصالات مع «حزب الله» شكلت جزءاً من نمط سلوكي في أعقاب التحديات الرئيسية للسيطرة السورية في لبنان، وقبل اغتيال الحريري مباشرة في ذلك الشهر نفسه.
وخلص الادعاء العام إلى أنه “عندما يتم وضع هذه الأحداث في سياقها الصحيح، يصبح المنطق والحافز وراء سلوك الشبكات واضحاً”. وفي الواقع، إن الدوافع التي حفزت المسؤولين من سوريا و«حزب الله» والإجراءات التي اتخذوها كانت مرتبطة بشكل وثيق في ذلك الحين، كما أن رد الفعل المقابل من الشبكات السرية المشاركة في المؤامرة يعزز الاستنتاج أن كياناً واحداً كان وراء العملية، التي كانت منسقة من قبل المتهم وتمت تحت إشراف بدر الدين.
الخطوات التالية
على الرغم من أنه من غير المتوقع صدور الحكم النهائي قبل مرور خمسة أو ستة أشهر أخرى، إلا أنه لا ينبغي على لبنان أو المجتمع الدولي الاستخفاف بما كشفه المدعي العام في مرافعته الختامية. وإذا ما وجدت المحكمة أن «حزب الله» مذنباً بتهمة اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق، فستعتبر دول العالم إن الحزب هو منظمة إجرامية. ويشمل ذلك الحكومات الأوروبية، التي ستجد صعوبة أكبر في التعامل مع “الجناح السياسي” لـ «حزب الله» إذا قررت محكمة دولية رسمياً أن منظمته الأم هي من نفّذت عملية الاغتيال. وفي الواقع، إن مثل هذه النتيجة يجب أن تحفزهم في النهاية على تصنيف «حزب الله» بكامله كمنظمة إرهابية بدلاً من إدامة نهج “الأجنحة” الذي لا يمكن الدفاع عنه.
وبالمثل، إن العلاقات الدولية مع مؤسسات الدولة اللبنانية ستواجه مشكلة كبيرة إذا ظل «حزب الله» جزءاً من الحكومة. يُذكر أن قرار مجلس الأمن رقم ١٥٥٩ من عام ٢٠٠٤ دعا سوريا إلى سحب قواتها والتوقف عن التدخل في السياسة الداخلية للبنان. وعلى الرغم من امتثال دمشق إلى حد كبير لهذا المطلب، إلا أن الجزء الثاني من القرار – الذي يدعو إلى حلّ كافة الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية – لم ينفّذ بعد. كما تم إصدار مطالب أخرى مؤجلة منذ وقت طويل في القرار رقم ١٧٠١ الذي دعا إلى ترسيم الحدود بين سوريا ولبنان.
ولعل السيد نصر الله قد استشعر التقدم المحتمل على هذه الواجهات، فحذر المحكمة وداعميها من “اللعب بالنار” في خطابه في ٢٧ آب/أغسطس. وكلما لجأ «حزب الله» إلى مثل هذه التهديدات، يميل صانعو القرار داخل لبنان وخارجه إلى منح الحزب ما يريده خوفاً من التسبب في قيام عدم استقرار محلي. وهناك العديد من الأمثلة على هذا الاسترضاء، مثل القانون الانتخابي الذي سهّل انتصار معسكر «حزب الله» في الانتخابات البرلمانية هذا العام، أو أحداث أيار/مايو ٢٠٠٨، عندما استخدم الحزب أسلحته ضد مواطنين لبنانيين آخرين، بحيث انتهى الأمر بتشكيل حكومة وحدة وطنية واتفاق الدوحة.
لكن هذه المرة، ستصدر الاتهامات ضد «حزب الله» من كيان دولي، وينبغي على الحكومات الأجنبية التعامل بصراحة مع هذه الاتهامات بدلاً من التملص منها. ولا ينبغي على الولايات المتحدة وبلدان أخرى التخوف من شبح عدم الاستقرار – بل على العكس من ذلك، فإن السماح لـ «حزب الله» بالإفلات من جريمة اغتيال الحريري لن يؤدي إلا إلى إثارة التوترات الطائفية، التي هي المحرك الحقيقي لعدم الاستقرار في جميع أنحاء المنطقة.
وعلى وجه التحديد، يجب على واشنطن والحكومات الأوروبية أن تكون مستعدة لتأخير قبولها لأي حكومة لبنانية جديدة تتضمن شخصيات من «حزب الله»، لا سيما في المجال الأمني. كما ينبغي عليها مساءلة بيروت عن أي تأثير ملموس لـ «حزب الله» على هذه القرارات. ويحتاج رئيس الوزراء سعد الحريري إلى دعم دولي قوي وموحد لمقاومة تهديد الحزب. ومن أجل حماية مؤسسات الدولة اللبنانية، يجب إبعاد «حزب الله» عنها، وهذا يتطلب تنسيقاً وثيقاً.
وأخيراً، فإن الكشف عن دور سوريا في الاغتيال يجب أن يضع نهاية للفكرة القائلة بأن الأسد يمكن أن يكون جزءاً من المستقبل السياسي لبلاده. وحتى لو كانت الحكومات الغربية والعربية مستعدة للتغاضي عن أعماله الوحشية ضد شعبه، إلّا أنه يجب أن تكون هناك عواقب على التورط القانوني لنظامه في اغتيال زعيم سياسي أجنبي.
حنين غدار
معهد واشنطن