بعد إدلب، أين سيذهب كل المقاتلين الذين أقسموا اليمين على أن لا يستسلموا أبداً؟ هذا هو السؤال. فبعدما سلّموا معاقلهم في المدن السورية الكبرى، تم نقلهم جميعاً على متن الحافلات إلى سلة قمامة الإسلاميين في إدلب. وهناك ممر أرضي يمتد بين إدلب والحدود التركية -وهناك مواقع عسكرية “لخفض التصعيد” أنشأها الجيش التركي في إدلب- 12 موقعاً على بعد اثني عشر ميلاً بالكاد من مقر قيادة الجنرال سلطان. يستطيع السوريون البقاء لكن الأجانب يجب أن يغادروا، كما يصر الجنرال سلطان -هذا هو الخط المعياري- ولكن من الذي سيقبل بعودة المقاتلين الأجانب؟ أشك في أن فلاديمير بوتين، الذي يُحدِّق من على جدار مكتب سلطان بهذه العيون الزرقاء الفاتحة غير المبتسمة، سيرحب بعودة الشيشانيين إلى الشيشان. ولن تقبل تركمنستان بالتركمان، ولا أوزبكستان بالأوزبكيين. ماذا بشأنهم وبشأن أولئك الآخرين الذين يقررون مواصلة القتال وسط المدنيين في إدلب؟
* * *
الحروب هي أشياء يصعب التنبؤ بحركتها. وتخبز الشمس البيضاء بصمت هذا السهل الشاسع أسفل ميدان المعركة في إدلب -ناهيك عن بطارية المدفعية السورية المكونة من أربعة مدافع من عيار 130 ملمتر المتمركزة على مرتفعات جبل الأكراد والمصوبة نحو الحقول الحارة والقرى المهجورة التي يسيطر عليها الإسلاميون في الشرق. وحول القنوات الرطبة التي ترفد النهر في الأسفل، تقف قطعان الأبقار البيضاء والسوداء تحت الأشجار. وفي مكان أبعد قليلاً نحو الطريق، يستريح الجنود السوريون تحت الأجمات. وثمة مجموعة من دبابات “تي-72” تربض هناك، منغرسة في الأرض، تحت الأغصان.
أهذه هي؟ أسأل نفسي، بينما أقود سيارتي شمالاً في اتجاه بلدة جسر الشغور التي ترسل قدراً أكبر من الإشارات على الموقعة القادمة. وما تزال البلدة في يد جبهة النصرة، ولكن، على بعد 10 أميال فقط -أنت تصبح معتاداً على الحروب حيث تشير لك شاخصات الطريق باستمرار إلى مواقع الجانب الخطأ من الخطوط الأمامية- تبدو فكرة أن هذا الريف القديم، ببيوته الحجرية العتيقة والامتداد الأخضر لنهر العاصي، على وشك أن يصبح موضعاً للمعركة الأخيرة والنهائية في الحرب السورية، تبدو الفكرة في غير محلها بطريقة غريبة.
هل سيتدفق السوريون من حوض نهر العاصي -عاصي سترابو وديونيسيوس- ويحيلون إلى يباب محافظة إدلب التي كانت منذ طويل وقت بمثابة مكب نفايات لأعداء سورية، مقاتلي النصرة و”داعش” والجهاديين الآخرين الذين رفضوا الاستسلام عندما أخلوا المدن السورية الكبيرة؟
كان الإسلاميون قد أرسلوا طائرة مسيرة مطلية بالفضي فوق الخطوط السورية قبل بضع ساعات من وصولي، والتي تم إسقاطها بنيران البنادق. وكتبت النصرة على جناحها كلمات: “إذا استلمتم هذه الرسالة، فهناك الأسوأ الذي سوف يأتي”، وكانت الرسالة موقعة باسم “طارق بن زياد من الأندلس”. وكانت عليها ثلاثة صواريخ صغيرة موثقة بالأجنحة. وكان طارق بن زياد هو الفاتح الأموي للأندلس الإسبانية في القرن الثامن. نعم، يخيم التاريخ بكثافة عليك في تلك الأنحاء.
ولكن، لنعُد إلى الحاضر. هل يوشك هذا حقاً أن يكون “برلين ‘45’” لهذه المأساة المتسعة؟ المسرح الذي سيشهد خسارة بشرية “غير مسبوقة”، كما تخشى الأمم المتحدة؟ “المذبحة” التي حذر منها إردوغان؟ التقدم “المتهور” إلى إدلب الذي يهدُر بشأنه ترامب؟ “الاستئصال (الأخير) لخُرّاج الإرهاب” الذي يتحدث عنه سيرغي لافروف -في كلام إسرائيلي صرف، كما يمكن أن أضيف، لأن هذه هي اللغة التي تستخدمها إسرائيل لدى الحديث عن حماس في غزة؟ أصبح لافروف خبيراً “في الإرهاب” بينما نتجه إلى يوم القيامة هذا -مفترضين دائماً أن نهاية العالم جارية حقاً.
أعتقد أنك يجب أن تكون نوعاً من المحقق الجنائي عندما تقود سيارتك حول هذه الطرق والدروب الجبلية، وإلى خاصرات التلال حيث تتمركز مدافع الجنرال جهاد سلطان خلف سواترها الترابية. لا بد أن يكون الإسلاميون قد صوروا بالطائرات المسيَّرة جوانب التلال هذه عدة مرات (وكذلك يجب أن تكون قد فعلت الأقمار الاصطناعية الأميركية)، والروس يعرفونها تماماً لأنهم حلفاء سورية. وليست هذه المدافع للعرض. لقد تم إطلاقها هذا الصباح بالذات بعد ما قيل عن تعرض السوريين للاستهداف بالصواريخ. ولكن، أين كانت جحافل القوات البرية، والدروع المكدسة من أجل التقدم الكبير؟ ثمة الكثير من القرويين القريبين خلف الخطوط السورية، الذين يجلسون في دور المقاهي، ويقودون المواشي إلى الحقول، ويتجولون في الخارج ويغسلون الأسيجة.
بعد ساعات من مغادرتي جورين، أطلق الإسلاميون رُشاشاً من الصواريخ والقذائف على الخطوط الأمامية السورية، والتي انفجرت في أنحاء البلدة. كان الهجوم قصيراً -والثاني في أسبوع- والذي قُصِد منه بوضوح استفزاز الجيش السوري. وبما أن المشتبه به المعتاد –مقاتلي المعارضة المسلحة في جسر الشغور- لا يمكن اعتقالهم، فإنهم يستطعون أن يتوقعوا، كما أفترض، تلقي القصف المعتاد.
أحد أولى الأشياء التي ألاحظها في مكتب الجنرال سلطان -يحمل لقب قائد اللجنة الأمنية لإدلب، مع أننا ما نزال (فقط) في محافظة حماة أكثر من كوننا في محافظة إدلب- هو صورتين كبيرتين فوق مكتبه للرئيسين بشار الأسد وفلاديمير بوتين. ويحيط علمان كبيران بنفس المقدار، سوري وروسي، بالصورتين الملونتين. وربما لا تكون هذه عملية روسية-سورية مشتركة على الأرض -رأيت مركبة واحدة للشرطة العسكرية الروسية خلال كل رحلتي قادماً من حماة- لكنها في الجو ستكون كذلك بالتأكيد، إذا ما حدثت. ويتحدث الجنرال سلطان، الذي كان ملازماً في دبابة خلال معركة السطان يعقوب اللبنانية خلال الغزو الإسرائيلي في العام 1982، عن “أصدقائنا الروس”، ويصر لي على أنه “منذ الساعة صفر، سوف يستغرقني الأمر سبعة أيام فقط لأكون داخل جسر الشغور”.
أخلِيت البلدة من الجيش السوري تحت النيران في العام 2015، وقُتل جنوده على أيدي فرق الإعدام من جبهة النصرة بجوار نهر العاصي بينما يشق قادتهم طريقهم إلى خارج البلدة بالقتال مع أكبر عدد استطاع أن يهرب من المدنيين. كما قتلت جبهة النصرة العائلات –ما من شك في حمام الدم هذا بالتحديد في ذلك الوقت؛ وقد أجريت بنفسي مقابلات مع الجرحى الناجين- وربما كان ذلك هو المحفز لوصول روسيا لدعم لنظام الأسد بعد بضعة أشهر لاحقاً. ولذلك، فإن هذه البلدة الصغيرة التي أستطيع أن أراها فعلياً من خلال السديم الذي تصنعه الحرارة بالمنظار، فيها حسابات لتسوّى.
يدّعي الجنرال سلطان، الرجل حاد الذهن ذو الشعر القصير الذي يخدم في حوض العاصي منذ ثلاث سنوات، أن لديه الكثير من “المساعدين” في محافظة إدلب، والذين يرسلون إليه المعلومات عن مقاتلي المعارضة وأسلحتهم. ويعرض لي هاتفاً جوالاً، ويقول: “أحدهم أرسل إليّ هذه الصورة”. وتُظهر الصورة عدداً من الرجال وهم ينصبون ما يبدو أنه مشنقة معدنية كبيرة، على ما يبدو في بلدة معرة النعمان التي تسيطر عليها الآن جبهة النصرة، ولو أنه تم التقاتل عليها عدة مرات، وقُصفت من الروس والسوريين، واستحمّت هي أيضاً في دماء التاريخ. وفي البلدة، كان الصليبيون أنفسهم قد كتبوا في السابق عن كيف كانوا، بينما يرتحلون قادمين من أنطاكية، جائعين حتى أنهم اضطروا إلى أكل أجساد خصومهم المسلمين الشرقيين.
و، نعم، ينبغي أن يواصل المرء قول ذلك -فلنعد إلى الحاضر. فوق مجموعة من ضباط الجنرال سلطان، الذين ينقرون على حواسيبهم المحمولة السوداء، ثمة خريطة عمليات مغلفة لكامل شبه الجزيرة التي هي منطقة المعارضة، بينما تنتفخ تحت العاصي. ومفصلة عليها بالعربية، بطبيعة الحال، ثمة عشرات المواقع السورية ومواقع النصرة المعلمّة على طول خطوط الجبهة.
المواقع السورية ملونة بالأحمر، والنصرة وحلفاؤها معلمة بالأسود. وحول هذه الخطوط -وعلى امتداد شمال شرق اللاذقية وجنوب شرق حلب- يتحرك كبار جنرالات سورية، بمن فيهم القائد العسكري الذي لا يرحم الذي يسميه كل سوري “النمر”؛ وهناك الجنرال ذي الساق الواحدة، صالح، ضحية لغم أرضي شرق حلب، والجنرال الذي يسميه رجاله “القيصر” بعد معركته مع “داعش” في شرق حماة في العام الماضي.
لكن هؤلاء القادة لا يشتبكون مباشرة في الهجمات. وتكتيكاتهم التي أثبتت جدواها هي روتين “سلامي” القديم المتمثل في اقتطاع قليل من الأرض هنا، وتقويم خط مواجهة هناك، والتهام قرية أو اثنتين بعد فرار المعارضة منها. فهل يمكن أن تكون معركة إدلب الأخيرة الكبيرة شأناً أبطأ مما يتخيل ساسة العالم -ومحررو أخباره؟
هناك الكثير من الوقت للمحادثات الروسية-التركية، والمحادثات الروسية-الأميركية، والكثير من الساعات لاجتماعات “المصالحة” المحلية بين مقاتلي المعارضة السورية والجيش السوري -بحضور الروس، لأن هذا بالضبط هو ما حدث مرات عديدة من قبل في حمص ودمشق ودرعا. وفي درعا، في الحقيقة، هناك اليوم قرى تخضع لسيطرة الحكومة اسمياً، لكن التي تُسيّر الدوريات فيها هي قوات مسلحة غير حكومية، بموافقة الحكومة وفق اتفاق معقد لوقف إطلاق النار.
ولكن، أين سيذهب كل هؤلاء المقاتلين، الذين أقسموا اليمين على أن لا يستسلموا أبداً، بعد ذلك؟ هذا هو السؤال. عندما قاموا بتسليم معاقلهم في المدن السورية الكبرى، تم نقلهم جميعاً على متن الحافلات إلى سلة قمامة الإسلاميين في إدلب. وهناك ممر أرضي يمتد بين إدلب والحدود التركية -وهناك مواقع عسكرية “لخفض التصعيد” أنشأها الجيش التركي في إدلب -12 موقعاً على بعد اثني عشر ميلاً بالكاد من مقر قيادة الجنرال سلطان. يستطيع السوريون البقاء لكن الأجانب يجب أن يغادروا، كما يصر الجنرال سلطان -هذا هو الخط المعياري- ولكن مَن الذي سيقبل بعودة المقاتلين الأجانب؟ أشك في أن فلاديمير بوتين، الذي يُحدِّق من على جدار مكتب سلطان بهذه العيون الزرقاء الفاتحة العابسة، سيرحب بعودة الشيشانيين إلى الشيشان. ولن تقبل تركمنستان بالتركمان، ولا أوزبكستان بالأوزبكيين. ماذا بشأنهم وبشأن أولئك الآخرين الذين يقررون مواصلة القتال وسط المدنيين في إدلب؟
وإذن، هذا لا يعني أن إدلب سوف تنتهي بومضة. كان الامتداد السماوي فوق جسر الشغور خالياً عندما نظرت عبر سهول العاصي، ولكن قبل ذلك بيوم، كانت هناك عدة غارات جوية سورية. وزعمت المعارضة أن 10 مدنيين قد قُتلوا -وهم نادراً ما يذكرون خسائر الميليشيات- لكن هناك أيضاً عائلات لجنود الحكومة بين عشرات الآلاف من المدنيين في محافظة إدلب. والنظرية العامة للجنرال سلطان -يمكنك أن تحدّق عبر امتداد القرى الرمادية المدمرة على جانب جبهة النصرة من الخط، وأن تبحث بلا طائل عن كائن بشري واحد- هي أن المقاتلين الإسلاميين الأجانب وضعوا عائلاتهم في جسر الشغور، وهي مسألة خطيرة بالنسبة للمعارضة، إذا كان ذلك صحيحاً.
يتحدث الجنرال بحرية كبيرة عن الجنود الذين فروا من الجيش السوري في الأيام الأولى من الحرب -وعن كم هم كثيرون الذين عادوا إلى الصفوف. ويتحدث عن الفقر الذي دفع الرجال للانضمام إلى المعارضة. “ثم بحلول 2015، أدركوا أن قتالهم لم يكن قتالاً من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان. ودعمَنا أصدقاؤنا من الاتحاد الروسي بالأسلحة المناسبة بينما واصلت سورية القتال”.
يوافق الجنرال على أن الجيش السوري قد تدرب على القتال في التلال -من أجل المعركة النهائية لاستعادة الجولان التي تحتلها إسرائيل، أكثر من كونه تدرَّب على المعركة الأخيرة من أجل إدلب التي تحتفظ بها جبهة النصرة. ومن الواضح أن إدلب تقع في الاتجاه المقابل للجولان، كما يوافق. وبذلك، يُفترض أن معركة الجولان لم يأتِ أوانُها بعد.
وتلك قصة أخرى.
روبرت فيسك
الغد