بات أمراً روتينياً أن تتناقل وكالات الأنباء وقائع قصف مواقع إيرانية في مناطق مختلفة من عمق الأراضي السورية، وأن يشير المنطق العسكري والسياسي البسيط إلى أن دولة الاحتلال الإسرائيلي هي المسؤولة عن تنفيذ تلك العمليات سواء عبر الطيران الحربي أو السلاح الصاروخي. كذلك بات في حكم الروتين المتكرر أن تمتنع السلطات الإسرائيلية عن تأكيد أو نفي مسؤوليتها عن هذه الوقائع، وأن يلتزم النظام السوري الصمت المطبق إزاء الاعتداءات، أو يصدر بيانات عامة حول تصدي المضادات الأرضية للهجمات وإسقاط بعض الصواريخ.
هنالك في المقابل صمت آخر يخيم غالباً على الإعلام الرسمي التابع للسلطات الإيرانية عند كل هجمة، بالرغم من ذيوع أخبارها حتى في الصحف والمواقع الإيرانية غير الرسمية. وأما اللافت أكثر فهو ذلك السكوت الإيراني العسكري المطبق، وعدم التعامل مع الهجمات الإسرائيلية، والامتناع عن استخدام المضادات الإيرانية الأكثر تقدماً من تلك التي يمتلكها جيش النظام السوري، فضلاً عن لجم «حزب الله» عن أي رد صاروخي ثأري ضد جيش الاحتلال عبر الأراضي اللبنانية.
وبالطبع، لا يفوت المراقب للمشهد ملاحظة الموقف العسكري الروسي لجهة عدم توظيف رادارات موسكو التي تصنع ساتراً إلكترونياً متقدماً يغطي كامل الأجواء السورية، وعدم إنذار «الحلفاء» قبيل الهجمات الإسرائيلية، إن لم يكن عن طريق التواصل مع القوات الإيرانية ذاتها، فعلى الأقل عبر النظام السوري. ويكتسب هذا الموقف الروسي بعداً خاصاً، أمنياً وعسكرياً وسياسياً أيضاً، حين تستهدف الغارات الإسرائيلية مواقع بالغة الحساسية مثل محيط مطار دمشق الدولي، أو قبله مطار المزة العسكري، أو مركز البحوث في مصياف غير البعيدة عن مطار حميميم الذي بات قاعدة عسكرية روسية صرفة.
وفي حقيقة الأمر لا ينطوي مشهد الصمت هذا على أي سرّ خفي، أو تقف وراءه أسباب غامضة تقتضي التقصي والتحليل. فالنظام السوري عاجز عن الرد قياساً على ضعف عدته العسكرية بالمقارنة مع جيش الاحتلال الإسرائيلي، كما أن ما تبقى من قواته منشغل بمواصلة الحرب على الشعب السوري والسهر على حماية رموز النظام. طهران، من جانبها، تتفادى المواجهة لأن عينها على مراضاة الغرب في اشتباكها الراهن من الإدارة الأمريكية، وهي حريصة أيضاً على عدم إشغال «حزب الله» عن معاركه في الداخل السوري لصالح النظام. وأما موسكو فإنها لن تغضب من عمليات عسكرية إسرائيلية تفلح في تقليم أظافر إيران العسكرية على الأراضي السورية، وهذه في نهاية المطاف استراتيجية محدودة تتيح للجيش الروسي أن يكون القوة العسكرية الأعلى سطوة وهيمنة.
يبقى بالطبع أن جيش الاحتلال الإسرائيلي يسرح ويمرح ويضرب متى شاء وحيثما قرر، متكئاً على أنساق الصمت سالفة الذكر من جهة أولى، وكذلك على الدعم الأقصى الذي تتلقاه حكومة بنيامين نتنياهو من إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وهو دعم لا يكتفي بتمتين الموقف الإسرائيلي ضد إيران فحسب، بل يشمل أيضاً تضييق الخناق على الفلسطينيين شعباً وسلطة ومنظمات.
وبالأمس غرد نتنياهو قائلاً: «خطوطنا الحمراء أوضح من أي وقت مضى»، وأما مضادات النظام السوري وحلفائه فإنها بدورها أوضح صمتاً وأشد خرساً.
القدس العربي