قلما يتم الحديث في طبيعة السياسات الأميركية، بداية هذه الألفية، دونما ربطها بهذا الشكل أو ذاك (حتى باختلاف زوايا الرؤية) بـ”فريق” من الساسة والباحثين والأكاديميين (والإعلاميين أيضا) توافقت الأدبيات الرائجة على نعتهم بـ”المحافظين الجدد”، إما من باب التمييز، وإما إعمالا لمبدأ التمايز عما سواهم من “محافظين”.
-1-
والواقع أنه في الوقت الذي اقترنت فيه نهاية القرن الماضي بصعود “الليبيراليين الجدد”، تقوضت على محراب فكرهم معظم مكاسب دولة الرفاه لما بعد الحرب العالمية الثانية، فإن العشرية الأولى من القرن الحالي إنما تزامنت مع انبعاث “تيار” المحافظين الجدد، الذين بدوا للبعض آتين من صلب الأولين، وخالهم البعض الآخر امتدادا لبعض من أطروحاتهم، أو ممثلين لهم في الزمن والمكان.
وإذا كان من المتعذر تشريح علاقات الارتباط والممانعة بين التيارين، والوقوف بدقة عند جوانب التقاطع أو التنابذ فيما بينهما، فإن الثابت حقا أن المحافظين الجدد لم يشرعوا (في الاقتصاد كما في السياسة) لمنظومتهم إلا بالدعوة “للعودة إلى الأصل”، أي إلى طبيعة الأمور كما بنى لها الآباء المؤسسون، دونما تدخل لقوى خارجية، حتى وإن كانت الدولة المركزية ذاتها.
وعلى الرغم من تبنيهم المطلق لأفكار وتصورات محددة، فإن مجال المحافظين الجدد بقي محصورا، بل مشتتا بين الجامعات والمعاهد ومراكز الدراسات، ولم يتسن لهم التواصل، فيما بين بعضهم بعضا أو مع العالم الخارجي، إلا عبر الأفكار ونشر الآراء، دونما قدرة من لدنهم كبيرة على ترجمتها إلى واقع حال وإلى سياسات عملية.
“مثل انتخاب بوش الابن التدشين الفعلي لبلوغ المحافظين الجدد للسلطة ووضع تصوراتهم على محك الممارسة وتحولهم -فوق كل هذا وذاك- إلى تيار قائم لا يخجل أعضاؤه من الصفة المعطاة لهم، ولا من الأوصاف التي تلصق بهذا العضو أو ذاك، بتاريخه أو بطبيعة انتماءاته السابقة”
بيد أن انتخاب جورج بوش الابن يعتبر التدشين الفعلي لبلوغهم السلطة، ووضع تصوراتهم على محك الممارسة وتحولهم -فوق كل هذا وذاك- إلى تيار قائم لا يخجل أعضاؤه من الصفة المعطاة لهم، ولا من الأوصاف التي تلصق بهذا العضو أو ذاك، بتاريخه أو بطبيعة انتماءاته السابقة.
ومع أنهم لا يزالون بكبريات الجامعات ومراكز البحوث والدراسات يهيمنون على أقسامها الحساسة ويزودون المؤسسة الحاكمة بالدراسات والتقارير والتوصيات، فإن غالبيتهم أضحت من تاريخه، وإلى حد بعيد، في محيط صناعة القرار كما كان الشأن (ولا يزال ربما) بالنسبة لديك تشيني وبول ولفويتز ورتشارد بيرل وجون أشكروفت وروبرت كاغان ودوغلاس فيت وأبراهام شولسكس وجيمس وولسلي، ناهيك عن أباطرة الإعلام من أمثال روبيرت مردوخ وبيل كريسطول ومايكل ليدين وستيفن براين ودانييل بايبس وما سواهم.
إنهم باتوا العصب الناظم لثلاثية السلطة والمال والإعلام، بالجهاز التنفيذي كما على مستوى مؤسسات التشريع، بعالم الأفكار كما على مستوى ترجمتها إلى برامج وسياسات وتوجهات بالداخل والخارج، بتصريف مفاصلها بهذا الوسيط الإعلامي أو ذاك، كما على مستوى إدراجها ضمن البرامج التربوية والتعليمية.. وهكذا.
ليس من المبالغة في شيء القول إذن إن المحافظين الجدد (البائن منهم وأيضا الباطن) إنما يدفعون بأفكار وسلوكات تبدو للبعض نشازا ومجانبة لعين العقل، لكنها تبدو لهم (للمحافظين الجدد أعني) في تناسق كامل وعميق وما نظر له فلاسفتهم ومفكروهم، لا سيما مرجعهم الروحي الأعلى: ليو شتراوس.
-2-
لم يكتب ليو شتراوس (وفق ما يقول المختصون بفلسفته) مقالا في السياسة ولا في العلاقات الدولية. هو دارس للفلسفتين الوسيطتين الإسلامية واليهودية (من زاوية نديتهما)، وأستاذ لهما إلى حين وفاته بداية سبعينيات القرن الماضي.
لكنه مع ذلك يبدو من أولئك الفلاسفة الذين غالبا ما تخضع أفكارهم للتسييس أو للتأويل السياسي، فتنطلق، اعتبارا لبريقها، من جيل إلى جيل، وتنتقل من مجال المعرفة المجردة إلى حقول التطبيق العملية في شكلها كما في الجوهر.
ينبني مشروع ليو شتراوس (المؤسس لتيار المحافظين الجدد) على فكرتين بديهيتين، لكنهما ذوات آثار وتبعات كبرى:
– فكرة النخبة العالمة والنزيهة، المالكة لسلطان المعرفة والتواقة لبلوغ السلطة بغرض ضمان النفاذ لمعرفتها و”إشاعة حكمتها لخير البشرية”. ولما كانت كذلك، فهي حتما صاحبة الرؤية وصاحبة التخطيط في الآن معا.
– وفكرة مكافحة النسبية الأخلاقية، “على اعتبار أن الحقيقة الفلسفية لا تقبل التسويات”. وهذه الحقيقة عندما تبلغ مجال السياسة، فإنها “تلهمها مضامينها وقوامها الأخلاقي” الذي تعمل النخبة العالمة على تصريفه، بعدما يكون قد تسنى لها صياغته والتنظير له.
وعلى هذا الأساس، يرى شتراوس، أن أميركا بنخبتها العالمة و”سيادة الحقيقة” من بين ظهرانيها إنما تملك “دعوة أخلاقية كبرى باسم فكرة الحرية.. لا يصح التنازل عنها في الداخل ولا مع العالم الخارجي”، بل هي مطالبة “بضرورة التدخل لتحقيق الفكرة المطلقة والرسالة دون تردد”، حتى وإن استدعى الأمر تجاوز القانون ودهسه.
يقول شتراوس بهذا الخصوص إنه: “لمن السخافة حقا أن نعيق الانسياب الحر للحكمة بالقوانين.. يجب أن يكون حكم الحكماء مطلقا، كما أنه من السخافة وبالقدر ذاته أن نعيق الانسياب الحر للحكمة عبر أخذنا بعين الاعتبار رغبات غير الحكماء. لهذا يجب ألا يكون للحكماء العاقلين مسؤوليات على رعاياهم غير العاقلين”.
بالتالي، فهو يرى أن “الديمقراطية الحقة هي فعل يتعارض مع أحكام الطبيعة، لذا يجب منعه كائنة ما تكن التكاليف”، على اعتبار “أن القانون الطبيعي” (وضمنه الدين) هو “شيء سماوي يبرهن على نفسه بنفسه”.
لا يقتصر الأمر، لدى شتراوس، على هذا الحد، بل يتعداه إلى تدوين وصايا كبرى أضحت لدى المحافظين الجدد المشعل الذي ينير لهم مسالك الطريق:
– الوصية الأولى تتعلق، في نظرهم، بتلازم القوة والديمقراطية. فإذا كان شتراوس وتلامذته يقدمون مبدأ العدالة على الحرية ومبدأ الحرية على الديمقراطية، فإنهم بالتالي لا يؤمنون بعدالة لا تكون القوة والسلطة قوامها، بل يذهبون لحد إدانة العدالة التي لا توظف القوة في تنفيذ محتوياتها.
“يبدو أن “المشروع الفكري” الذي بناه ليو شتراوس (مؤسس تيار المحافظين الجدد) وترجمه تلامذته على أرض الواقع، إنما هو مشروع أيديولوجي بامتياز، ليس فقط بمقياس نزوعه إلى المطلق في الحكم، ولكن أيضا بحكم طبيعة السياسات المترتبة عنه في الزمن والمكان”
– الوصية الثانية وتكمن في تلميح شتراوس إلى التراتبية الاجتماعية، وفي التقاطها من لدن تلامذته ليحولوها إلى مبدأ في الحكم ومسلك في الحكامة: الرئيس أولا ثم حراسه، ثم أصحاب المهن والحرف، ثم -في آخر الترتيب- العبيد والدهماء.
لا تنحصر تداعيات هذه الوصية في معاداتها للعامة من الشعب، بل تذهب لحد عدم اكتراثها بالأغلبية التي من المفروض أن توضع “تحت طائلة القانون”، وتعمل بتوجيه من خاصة القوم، أي من نخبته العالمة.
– أما الوصية الثالثة فتكمن فيما أسماها ليو شتراوس بـ”الكذبة النبيلة”. ومفادها أن الكذبة إياها إنما هي “أداة من أدوات السياسة الحكيمة.. المهمة والضرورية، ما دامت في خدمة المصلحة الوطنية”.. وهو ما لا يسري – يعتقد شتراوس- على الزوجة مثلا، التي تكذب على زوجها صيانة لأسرتها، لأن المرأة “غير نبيلة”، بالتالي لا يجب مسامحتها بقدر مسامحة “الحكماء المسؤولين”.
-3-
يبدو إذن أن “المشروع الفكري” الذي بناه ليو شتراوس وترجمه تلامذته على أرض الواقع، إنما هو مشروع أيديولوجي بامتياز، ليس فقط بمقياس نزوعه إلى المطلق في الحكم، ولكن أيضا بحكم طبيعة السياسات المترتبة عنه في الزمن والمكان.
والواقع أن سلوك وسياسة إدارة جورج بوش الابن إنما كانت تعبر عن روح فكر شتراوس (والأيديولوجيا الثاوية خلفها) وأيضا عن منطوق الفكر ذاته:
– فقد احتقرت الديمقراطية عندما قدمت العدالة والحرية (المغلفتين برداء أخلاقي) على الديمقراطية، وسوغتها مجتمعة لخدمة “الفكرة المطلقة” التي تحددها “النخب العالمة” بالجامعات كما بمراكز الأبحاث والدراسات، ولا سبيل لأحد لمنازعتها أو لتبيان محدوديتها.
– وهي احتقرت الديمقراطية لما عمدت إلى فرضها بالقوة (بالعراق مثلا أو بأفغانستان) على خلفية من الاعتقاد بأن “الديمقراطية هي التي من شأنها تغيير الأنظمة وطبيعة المجتمعات”.
– واحتقرت الديمقراطية عندما دهست القانون الدولي وتجاوزت على الحكومات والشعوب فاستعمرت (على خلفية من قانون شتراوس “الطبيعي”) دولتين ذواتي سيادة (العراق وأفغانستان)، وفرضت عليهما نموذجا في “الديمقراطية” لم يفرز من حينه لا أمنا للمواطن ولا استقرارا للأوطان.
– واحتقرت الديمقراطية عندما مررت لفكرة شتراوس بأن “الإنسان شرير جدا، لذا يجب أن يحكم” لا أن يترك على عواهنه، لا سيما وأنه قد يركب سلوكا “يصيب به الآخرين”، بوعي منه مقصود، أو دونما وعي بذلك يذكر.
-4-
لو تسنى لنا تمثل أيديولوجيا المحافظين الجدد كما قدمنا لبعض عناصرها أعلاه، فسيسهل علينا حتما تمثل مقولة “الفوضى البناءة” التي أطلقتها كوندوليزا رايس في العام 2006، إزاء الإستراتيجية الأميركية بالعراق، التي لم تفرز لأكثر من عقد من الزمن إلا أقصى حالات الاقتتال الطائفي والتناحر المذهبي وإقبال البلاد على التقسيم والتمزق.
ولو حاولنا فهم السلوك الأميركي إزاء الأحداث الكبرى التي شملت المنطقة العربية، منذ اندلاع شرارة “الربيع العربي” وإلى اليوم، لتبين لنا أنه لم يحد قيد أنملة عن أيديولوجيا “الفوضى البناءة”، لكن هذه المرة عبر الترويج غير المباشر لأطروحة مثيلة (أطروحة “الفوضى الهدامة”) التي مفادها تعميم الهدم الجذري في أفق إعادة البناء من جديد.
“الذي جرى ويجري بالمنطقة العربية منذ العام 2011 إنما هو تجسيد في الشكل والمضمون لما بشر به المحافظون الجدد وأوصوا باعتماده. ولما كانت مرحلة التدمير جارية على قدم وساق، فإن السلوك الأميركي يكتفي لحد الساعة بالتأجيج عن بعد: بترجيح كفة هذا تارة، وبالضغط على ذاك تارة أخرى”
ولذلك، فإن الذي جرى ويجري بالمنطقة العربية منذ العام 2011 إنما هو تجسيد في الشكل والمضمون لما بشر به المحافظون الجدد وأوصوا باعتماده. ولما كانت مرحلة التدمير جارية على قدم وساق، فإن السلوك الأميركي يكتفي لحد الساعة بالتأجيج عن بعد: بترجيح كفة هذا تارة، بممارسة الضغط على كفة ذاك تارة أخرى، وإن من وراء الكواليس، ثم بالدفع المباشر لكفة ثالثة بتصعيد الموقف.. وهكذا.
ولما يتأكد ذات السلوك من أن النار قد أتت على الأخضر واليابس، ولم يعد ثمة ما يستحق الاقتتال، سيعمد لا محالة إلى الدفع بمقولة “إعادة البناء”.
صحيح أن أيديولوجيا الهدم هي الجارية حاليا بالعراق واليمن وسوريا وليبيا (وإلى حد ما بمصر وتونس). وصحيح أن عملية الهدم لا تقتصر على الشجر والحجر، بل تشمل المؤسسات الرمزية ودعامات اللحمة الوطنية وركائز التركيبة الاجتماعية، ناهيك عن مقومات المرجعيات الجامعة. كل هذا صحيح.
لكننا، إزاء هذا البلد العربي، كما إزاء ذاك، سنكون حتما إزاء مشهد جديد ستنبعث من بين ظهرانيه دويلات جديدة على أنقاض الدولة الواحدة، ومجالات جغرافية عرقية أو مذهبية على أنقاض المجال الجغرافي الواحد، وحدود سياسية جديدة على أنقاض الحدود الوطنية القائمة، وقس على ذلك.
إن خريطة ما سينتج عن الفوضى الهدامة الجارية بالجغرافيا العربية قد باتت جاهزة فيما نزعم. إنها لا تحتاج إلا للتأشير عليها لتدخل حيز التنفيذ.. الله وحده يعلم كم ستستنبت أيديولوجيا الفوضى الهدامة الجامحة هاته من دويلة بليبيا أو سوريا أو اليمن أو مصر، لا بل بصلب الدول التي تدعي أنها بعيدة عن القادم من موجات أو من تأثير الارتدادات.
لقائل أن يقول: أليس هذا هو ما يطرحه أنصار نظرية المؤامرة بالجملة والتفصيل؟ نقول: نعم، هو كذلك وأكثر. لأن ما يرتب للمنطقة العربية لم يعد خافيا، ولا مثار تحفظ من لدن الدافعين به أنفسهم، حتى وإن تدثر خطابهم بلبوس “الحرب على الإرهاب” أو “مواجهة التطرف” أو ما سواها.. سنكون عديمي البصر والبصيرة حقا إذا بدا لنا الأمر غير ذلك.
يحيى اليحياوي
نقلا عن الجزيرة نت