الأيام الأربعة التي يقضيها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في أروقة الأمم المتحدة كانت حافلة ومزدحمة من جهة أولى، وربما ثقيلة الوطأة من جهة ثانية، بالنسبة إلى رجل آمن على الدوام بأن هذه الهيئة الأممية «مجرد نادٍ» فاشل، ولم ترق إلى مستوى الطموحات التي عُلقت عليها، وما تزال غير قادرة على إيجاد الحلول لكثير من المسائل.
ولأن الولايات المتحدة هي الدولة رئيسة مجلس الأمن الدولي لهذا الشهر، وهذا يتصادف مع أعمال المداولات السنوية رفيعة المستوى التي تشهدها الجمعية العامة، فقد ترأس ترامب اجتماعاً لمجلس الأمن خُصص لمحاربة المخدرات، وسوف يترأس اليوم اجتماعاً ثانياً حول الحد من انتشار أسلحة الدمار الشامل أراده في الأصل مكرساً لموضوع واحد حصري هو إيران. كذلك اعتلى المنصة يوم أمس لإلقاء خطبة هي الثانية له أمام الهيئة الدولية منذ انتخابه، تفاخر فيها بأن إدارته حققت ما لم تحققه أية إدارة أمريكية من قبل.
وفي سنة 2017 كانت كوريا الشمالية هي تجسيد الشر، وأما هذه السنة فإن إيران تحتكر الصفة في رأي ترامب. وفي الخطاب السابق كان مبدأ «أمريكا أولاً» هو الغالب، وفي الخطاب الجديد يتجلى المبدأ في الانسحاب من مجلس حقوق الإنسان والمحكمة الجنائية الدولية، والتلويح بعدم التعاون مع المنظمات الدولية المعنية بشؤون اللاجئين والهجرة، وتهديد الأمم بخفض المعونات الخارجية.
ولعل الفارق الأكبر بين الخطبتين هو أن حصاد ذلك المبدأ يتجلى اليوم على أرض الواقع بوضوح أشد، إن على صعيد داخلي في قلب إدارة ترامب ذاتها، أو على صعيد دولي يشمل حلفاء الولايات المتحدة التقليديين قبل خصومها. فلقد حضر ترامب إلى نيويورك وقد استبدل وزير خارجيته السابق ريكس تيلرسون بآخر أكثر تشدداً في السياسة الخارجية، كما استبدل مستشاره للأمن القومي هربرت ماكماستر بصقر عجوز احتقر الأمم المتحدة على الدوام. وعلى الصعيد الدولي جاء وفي جعبته قرارات الانسحاب من اتفاقية المناخ، ومن الاتفاق النووي مع إيران، ونقل السفارة الأمريكية إلى القدس المحتلة، والنزاع التجاري مع الصين والاتحاد الأوروبي.
ولم تكن مصادفة محضة أن تشهد أروقة الأمم المتحدة توصّل فرنسا وألمانيا وبريطانيا والصين وروسيا إلى آلية خاصة للحفاظ على التجارة مع إيران، خاصة في ميدان استيراد النفط الإيراني حين تدخل العقوبات الأمريكية على طهران مرحلتها الثانية في تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل، الأمر الذي يشكل اختراقاً جدياً للحظر الذي تفرضه الولايات المتحدة منذ انسحابها من الاتفاق النووي مع إيران. كذلك لم يكن غريباً أن تكون اللقاءات الثنائية الأنجح التي عقدها ترامب على هامش اجتماعات الأمم المتحدة، تلك التي جمعته بالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ورئيس وزراء دولة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، فالاستبداد وكم الأفواه عند الأول يتكامل مع السياسة العنصرية والتوسعية عند الثاني، وكلاهما تطبيق ناجح لفلسفة ترامب حول العلاقات الدولية.
أيام نيويورك الأربعة كانت حملة صليبية ثانية ضمن الحرب التي يشنها ترامب تحت شعار «ما لا أحبه، لا أحد ينبغي أن يحبه» حسب تعبيره، والحملات المقبلة قد تكون أخطر وأدهى عاقبة.
القدس العربي