كشف السجال الدائر بين روسيا وإسرائيل بشأن إسقاط الطائرة الروسية فوق السواحلالسورية عن جانبين مهمين في العلاقة بين الطرفين، الأول مرتبط بعمق التنسيق بينهما، والثاني خاص بظهور تباين بين الكرملين والمؤسسة العسكرية الروسية بشأن أبعاد هذا التنسيق ومدياته.
في المحور الأول، أكدت الحادثة وجود تفاهم تام يسمح لإسرائيل بحرية الحركة ضد الوجود العسكري الإيراني، أو المرتبط بإيران في سورية، شريطة إعلام روسيا بمكان الهجوم وزمانه قبل وقت كاف، منعا لوقوع أخطاء أو حوادث صدام غير مقصودة. وقد احتجّت روسيا بأن ما قامت به إسرائيل يوم 17 سبتمبر/ الجاري يعد خرقا لهذا التفاهم، إذ ضللتها بشأن مكان الهجوم، ولم تعلمها بموعده إلا قبل دقيقة من وقوعه، ما حال دون إخراج الطائرة الروسية (إيل 20) من موقع الاشتباك.
في المحور الثاني، مثلت الحادثة واحدةً من المرات القليلة التي تكشّف فيها وجود تباين في الرأي بين الرئيس الروسي، بوتين، وجنرالاته، فيما يتصل بإدارة الملف السوري، إذ حاول بوتين أول الأمر احتواء الحادثة، ومنع حصول تداعيات كبيرة بشأنها، من باب استمرار حاجته لاستخدام إسرائيل أداة ضغط على الوجود العسكري الإيراني في سورية من جهة، ومن باب رغبته في استمرار التعاون معها في تفكيك عقد علاقاته المعقدة مع واشنطن، من جهة أخرى، كما تبيّن في اتفاق “تصفية” منطقة خفض التصعيد في الجنوب السوري. أما الجنرالات الروس فقد أبدوا، في المقابل، تشدّدا في التعامل مع الحادث، ذلك أن إسقاط الطائرة جاء بمثابة صفعة جديدة أخرى للمؤسسة العسكرية الروسية التي فقدت كثيرا من ماء الوجه في سورية، مرة على يد الأتراك (إسقاط الطائرة الروسية في نوفمبر/ تشرين الثاني 2015)، ومرة على يد الأميركيين (ضربة دير الزور في فبراير/ شباط 2018 التي أودت بمئات القتلى من المرتزقة الروس)، وهذه المرة على يد الإسرائيليين، الذين، تعاطوا، كما تبيّن، باستخفافٍ شديدٍ مع مصير الطائرة الروسية وحياة الجنود على متنها.
حتى الآن، يبدو أن مقاربة الجنرالات انتصرت، فبعد عدة أيام من الحادثة، بدا فيها أن الاحتواء سيد الموقف، خرجت المؤسسة العسكرية بتوجهٍ يمكن أن يغيّر كل قواعد الاشتباك في سورية. إذ أعلن وزير الدفاع الروسي، الجنرال سيرغي شويغو، عن قرار تزويد النظام السوري بنسخة محدثةٍ من صواريخ إس 300، وهي الصفقة التي أبرمت عام 2013 ولم تنفذ مراعاة لإسرائيل. لا بل ذهب شويغو إلى أبعد من ذلك، عندما أعلن عن إطلاق الجيش الروسي منظومات التشويش الكهرومغناطيسي في مناطق المتوسط المحاذية لسواحل سورية، بهدف منع عمل رادارات واتصالات الأقمار الصناعية والطائرات في أثناء أي هجومٍ مستقبلي على سورية.
إذا قرّرت روسيا المضي فعلا بهذه السياسة، فهذا يعني عمليا سقوط تفاهمات 2015 بين نتنياهو وبوتين، وفتح الباب على احتمالات تصعيد كبرى. وإذا أصرّت إسرائيل، كما يقول قادتها، على منع إيران من إقامة وجود عسكري دائم في سورية، فهذا يعني أنها ستصطدم حتما بمنظومات الصواريخ الروسية الجديدة. وهناك احتمال أن تقوم لذلك بمحاولة تدميرها، كما فعلت خلال غزو لبنان عام 1982، حيث مثّل القضاء على بطاريات صواريخ سام التي نشرتها سورية في البقاع عام 1981 أحد أبرز أهدافها، لكن هذا سيمثّل بدوره إحراجاً كبيراً للروس، وسيضطرون للرد، كما حصل عند إسقاطهم الطائرة الإسرائيلية في العاشر من فبراير/ شباط 2018، هذا يستتبع دخول الأميركيين على الخط، في ضوء تصعيدهم الكبير مع إيران، ورفضهم تغطية روسيا وجودها في سورية عبر منظومات إل إس 300. احتمال الصدام قائم لكنه ضعيف، لأن بوتين يدرك أنه يخاطر من خلاله بكل “إنجازاته” السورية. الاحتمال الأرجح أن الرئيس الروسي يناور، إذ يحاول إخضاع إسرائيل لشروط دخول جديدة إلى سورية، كما فعل مع تركيا بعد إسقاطها الطائرة الروسية عام 2015، لكن إمكانية النجاح هنا محدودة أيضاً، ذلك أن تركيا لم تحظ أبدًا بالدعم الأميركي الذي تحظى به إسرائيل. في كل الأحوال، يبدو الوضع، كما صرح وزير الخارجية الفرنسي، خطيرا بوجود خمسة جيوش تتصارع على الأرض السورية. أما نحن السوريين، فمشغولون بمراقبة مدى التزامهم بقواعد الاشتباك!
مروان قبلان
العربي الجديد