6 أكتوبر لم تكن حرباً فقط

6 أكتوبر لم تكن حرباً فقط

عدا عن الحرب العالمية الثانية، نادرةٌ هي الحروب التي يظل العالم يستخلص دروسها ما يقرب من نصف قرن. بل ربما حرب أكتوبر في عام 1973 هي الوحيدة، خلال القرن العشرين، التي لم تبُح بعد بكامل أسرارها. وتعد حالة استثنائية ونموذجاً ربما غير مسبوق عربياً، لنصر عسكري، وإنجاز تاريخي حريّ بكل عربي أن يحفره في ذاكرته، وأن يستعيده الآباء على مسامع أبنائهم جيلاً بعد جيل. خصوصاً في وقت يعيش العرب أسوأ مراحلهم وأشدها معاناة على المستويات كافة. خصوصاً فيما يتعلق بالقوة المسلحة ومقومات الأمن القومي على المستويين، الوطني والقومي. ويكفي دليلاً على ما وصل إليه العرب من تردٍّ في هذا المجال، الاستماع إلى الوقاحة العلنية للرئيس الأميركي، دونالدترامب، وهو يكرّر، للمرة الرابعة، في أقل من عامين، مطالبة السعودية بأن تدفع مقابل الحماية الأميركية.
وإن كان ترامب يقصد بوقاحته دولة عربية أو أكثر، لا تملك جيوشاً جرّارة، فهو من حيث لا يدري، يشكّك في قوة الدول العربية كلها، وإرادتها وتماسكها، سواء التي تملك جيوشاً أو غيرها، فهو من ناحية يختزل الحماية في القوة العسكرية، ومن ناحية أخرى لا يعتبر الدول العربية مجموعة واحدة.
الرسالة الأساسية التي وصلت إلى العالم من حرب أكتوبر، واستوعبها جيداً في حينه، أن المصريين والعرب يستطيعون قلب الموازين أياً كان اختلالها، وتغيير الوضع القائم مهما بلغت صعوبته. وكما كان لأكتوبر معان ودروس لا يزال العالم يتلقاها، على العرب أيضاً استخلاص ما يخصّهم من نتائج ودلالات لتلك الحرب وفهمها. صحيح أن كثيراً من دروسها العسكرية صار جزءاً من مناهج العلوم العسكرية ونظريات القتال. لكن تظل دروسها للعرب أوسع وأعمق من المجال العسكري المباشر. وهو ما لم يفهمه العرب بعد. وأول تلك الدروس أن القوة هي (وهي فقط) التي تكفل استرداد الحقوق المسلوبة. أو كما قال الزعيم الراحل جمال عبد الناصر “ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة”، أخذاً في الاعتبار اتساع مفهوم القوة وشمولها، بما يجعل القوة العسكرية واحداً فقط من أوجه كثيرة لها.
الدرس الثاني الذي لم يستوعبه العرب من حرب أكتوبر أن فرص نجاح العمل الجماعي أكبر كثيراً من أي عمل فردي، مهما بلغت قوة أو قدرات صاحبه، فمصر لم تكن لتنتصر في معارك أكتوبر العسكرية، ما لم تكن الجبهة السورية شريكاً أصيلاً فيها. ولم تكن منظومة الحرب الشاملة لتكتمل، من دون الدور الاقتصادي والسياسي الذي لعبته دول الخليج بمنع النفط عن الغرب.
كان هذا في زمن القطبية الثنائية والحرب الباردة وانقسام العالم بين معسكرين، شرقي وغربي. ولم تكن المنطقة العربية مستهدفة أو موضع تكالب قوى إقليمية وخارجية عليها كما هو الوضع حالياً. وكان “الصراع العربي – الإسرائيلي” قضية العرب الأولى، بل ربما الوحيدة، فكيف الحال في زمن لم يعد فيه صوت يعلو فوق صوت ترامب، والدول العربية صارت بين مفكّكة أو فاشلة أو مُستنزفة في صراعات داخلية وخارجية.
يقول التفكير السليم إن ذلك الوضع المُزري يدفع إلى استجماع شتات الأمة، وتحديد العدو الحقيقي، إلا أن الأمر الواقع ينطق بغير ذلك، فقد صارت إسرائيل صديقة حميمة يخطب ودها العرب ويُعادون بعضا. وما عاد يبقى من أكتوبر شيء سوى التغنّي بذكراها.
صحيح أن جيش مصر لا يزال الأقوى والأكثر تماسكاً وصلابة بين جيوش العرب، لكن لأن أكتوبر لم تكن حرباً عسكرية فقط، ولا هي مصرية فقط، فإن قوة جيش مصر وحدها لن تعيد للعرب ما فقدوه من مكانةٍ وثروة، فضلاً عن تماسك الدول ورخاء الشعوب. ولم تمنع ترامب من التبجّح وابتزاز دول بحجة الحماية المزعومة. هذا هو الدرس الذي نسيه المصريون والعرب بعد أكتوبر 1973، أن قوة مصر والعرب الحقيقية لن تعود ثانية، بالتجزئة والأحادية والتفرد، بل يجب أن تكون شاملة لكل المجالات، متنوعة المصادر والموارد، وجماعية التفكير والعمل.

سامح راشد

العربي الجديد