يبدأ نص الاتفاق بأنه “تتفق حكومة إسرائيل والفريق الفلسطيني (في الوفد الأردني الفلسطيني المشترك إلى مؤتمر السلام حول الشرق الأوسط)، ممثل الشعب الفلسطيني، أنه آن الأوان لوضع حد لعقود من المواجهات والصراع والاعتراف المتبادل لحقوقهما السياسية والشرعية ولتحقيق تعايش سلمي وكرامة وأمن متبادلين والوصول إلى تسوية سلمية عادلة وشاملة ودائمة ومصالحة تاريخية من خلال العملية السياسية المتفق عليها”.
نحن إذاً أمام حكومة إسرائيلية تتفاوض مع فريق فلسطيني وليس هيئة أو هيكلاً أو حكومة، وافتتاح النص بكلمة اتفق يعني أن الأمر منتهٍ وأن الطرف الفلسطيني موافق ولا يمانع في الاعتراف المتبادل بالحقوق السياسية والشرعية وسقطت أو أسقطت الاعتبارات التاريخية والدينية، طبعا لا يمكن التوقف عند كل كلمة وردت في النص ومراجعتها ومراجعة مدلولها في هذه المساحة، ولكن ما يمكن التوقف عنده جلياً أن بعض النصوص لا تحتاج إلى كثير جهد وتمعن لمعرفة وفهم خطورتها، مثلاً ستجد أن كل فقرة في الاتفاق قد ورد فيها “وهو إلى جانب أمور أخرى” كما في البند الأول، ثم تجد “من بين أمور أخرى”، وتلك تكررت عدة مرات، من دون أن يسمي أو يذكر ما هي هذه الأمور الأخرى، حتى الملاحق سكتت هي الأخرى عن التطرق أو التعرض للأمور الأخرى، ترجمتها وتفسيرها.
الأمر الثاني أن النص مرر ما يشبه التدليس المفضي إلى الإهانة؛ ففي البند الثالث المتعلق بالانتخابات تجد مثلا النص “حتى يتمكن الفلسطينيون في الضفة الغربية وقطاع غزة من حكم أنفسهم وفق المبادئ الديمقراطية”، وهل كان الشعب الفلسطيني بحاجة لمن يحكمه مثلا حتى يأتي اتفاق أوسلو ويمكنه من أن يحكم نفسه، أم أن المسكوت عنه هنا أن إسرائيل لم تكن تحتل الشعب الفلسطيني بل كانت تحكمه فقط. في البند ذاته تجد ما نصه “أن هذه المفاوضات ستغطي قضايا متبقية تشمل القدس، اللاجئين، المستوطنات، الترتيبات الأمنية والحدود، العلاقات والتعاون مع جيران آخرين وقضايا أخرى ذات أهمية مشتركة”.
لم يسمها الاتفاق قضايا أساسية أو نهائية أو محورية بل سماها قضايا متبقية والناظر للنص يجده قد استغرق في تفاصيل وإجراءات ثانوية أخرى تتعلق بالولاية الانتخابية وبشكل الحكم وصلاحياته وبانتشار الأجهزة الأمنية وعند اللاجئين والقدس والحدود والدولة سكت أو وصفها بقضايا متبقية، ليس ذلك لكنه يورد مصطلحات أخرى مرة ثانية وقضايا أخرى دون أن يسميها ويقول التعاون مع جيران آخرين دون أن يسميهم، علما بأن القراءة القانونية لنص أي اتفاق، ولو كان شراء قطعة أرض، يلزمها تحديد الجيران بالاسم فيقال يحدها من الشرق فلان وفلان ومن الغرب كذلك، ولكن اتفاق تسوية سياسية لقضية احتلال لا يسمي جيرانها ولا يتم تحديدهم وتبقى تدور في مصطلحات أخرى..!
يقول نص الاتفاق عن القدس وأهلها: “يحق لفلسطينيي القدس الذين يعيشون فيها المشاركة في عملية الانتخابات وفقاً لاتفاقية بين الطرفين”. هكذا بدا اتفاق أوسلو في قراءة المسارات، فالنص ينقلنا من الاستغراق في التفاصيل إلى الغرق في الاتفاقات بناء على اتفاقات سابقة، فالانتخابات في القدس مثلا بحاجة لاتفاق آخر بين الطرفين. هل قرأ المفاوض الفلسطيني النص جيداً وتوقف عنده، لا سيما عندما يقول الاتفاق إن “الوضع المستقبلي للفلسطينيين المشردين الذين سجلوا في الرابع من شهر حزيران 1967 لن يتغير لأنهم لن يتمكنوا من المشاركة في عملية الانتخابات لأسباب عملية”. لم يسقط النص حق الانتخابات للاجئين مع أن اللاجئين أنفسهم في الضفة وغزة أتيحت لهم المشاركة ولم يفرق بينهم فقط، لكنه استعمل نص المشردين ووصفهم. إن صحافياً جديداً لا يمكنه استعمال هذا النص فكيف يصف نص اتفاق أوسلو اللاجئين “بالمشردين”! ويمر الأمر في اتفاق دولي ترعاه أطراف دولية وأممية.
قراءة أوسلو، خارج النص وفي مسار وسياق الممارسات، قدمت 78% من أرض فلسطين التاريخية وأخرجت ما احتلته العصابات الصهيونية في العام 1948 من الصراع ومن التفاوض ومن الحق الفلسطيني التاريخي.
إسرائيل اعترفت بالمنظمة لكنها لم تعترف بالشعب الفلسطيني، نص الاتفاق أظهر الصراع كأنه مجرد نزاع حاصل بين طرفين وقد اتفقا على حله بجرة قلم، نص الاتفاق اشترط وقف المقاومة بكل أشكالها ووصفها بالأعمال الإرهابية وهكذا جرمنا نضالنا وثورتنا بأيدينا وبتوقيعنا على النص.
وطالبنا لاحقا ووفق النص بنبذ العنف والتزام السلم، ولاحقا سنلتزم الصمت، حتى ونحن نقوم بإلغاء مواد الميثاق الوطني الفلسطيني سنلغيه بصمت وربما بالتصفيق، حتى حلت السلطة مكان المنظمة التي انتهت وتاهت في دهاليز السلطة والحزب الحاكم.
لم يقل نص الاتفاق ما هي المدة الزمنية وما هي المرجعية ومن الجهة الضامنة والكافلة، باختصار، إننا لو أردنا مقارنة اتفاق أوسلو باتفاق عمل أو تقديم خدمة أو شراء قطعة أرض أو منزل سنجد الفارق بين اتفاق واتفاق. وسنشهد، لا سنقرأ فقط، ما الذي حدث وما الذي فعلناه.
يحضرني مقال كتبه ألوف بن، رئيس تحرير صحيفة هآرتس في العام 2014، وكان بعنوان “هل كان مهندسو اتفاق أوسلو مخدوعين أو ماكرين؟”. وقراءة نص اتفاق أوسلو الآن بعد ربع قرن تدفعني للسؤال بطريقة أخرى هل قرأ مهندسو أوسلو نص الاتفاق؟ وكم مرة تمت قراءته؟ باعتقادي أنهم لم يقرؤوه وإنّ قرؤوه فإنهم لم يفقهوا ما فيه من مخاطر وتنازلات أوصلت الفلسطينيين إلى المأزق الذي يعيشونه حالياً.