‘النموذج’ الإيراني المعادي للغرب للسنوات الخمسين المقبلة

‘النموذج’ الإيراني المعادي للغرب للسنوات الخمسين المقبلة

في الرابع عشر من تشرين الأول/أكتوبر، أصدر المرشد الأعلى للجمهورية الإيرانية علي خامنئي مسودة وثيقة عنوانها “النموذج الإسلامي-الإيراني التأسيسي للتقدم”، وهي وثيقة تحدد رؤيته للأعوام الخمسين المقبلة. ومن غير المتوقع إصدار النسخة النهائية من هذا النموذج قبل  مرور عدة أشهر، لذلك قد يكون الترويج لمسودة في هذه الفترة محاولة لمعالجة بعضٍ الصعوبات الحالية التي تواجهها طهران، من بينها الضغوط الأمريكية المتزايدة والضربات الاقتصادية المتعاقبة، وتصاعد الشكوك العامة حول استمرارية النظام وشرعيته.

وفي جوهرها، تكشف إرشادات الوثيقة الرؤية المزدوجة التي يضعها خامنئي نصب عينيه لتحقيق الهيمنة الإقليمية إن لم تكن العالمية، وهي: أولاً أسلمة كافة أوجه الحياة بما يعنيه ذلك من مواصلة مقاومة الأفكار الغربية للنظام الدولي والسياسة والثقافة؛ ثانياً استخدام الإنجازات العلمية المتقدمة لتحقيق اكتفاء إيران الذاتي من الناحية التكنولوجية. باختصار، يبدو أن النظام يراهن على اقترانٍ أعمق بين الإيديولوجية الأصولية والتقنية العصرية.

تحذير للغرب

بالإضافة إلى التماسه رأي المؤسستين الأكاديمية والدينية بالنموذج، أوعز خامنئي إلى الفروع الحكومية وهيئات النظام المعنية بصنع القرار بترجمة أهداف الوثيقة إلى خطط عملياتية قابلة للتطبيق. فالنسخة النهائية من الوثيقة ستصبح عند صدورها المجموعة الرسمية من المبادئ التوجيهية لجميع القرارات الحكومية اعتباراً من مطلع السنة الأولى من القرن الخامس عشر حسب التقويم الإسلامي، أي عام 2020.

وتتمحور الاستنتاجات الرئيسية التي خلص إليها النموذج بصيغتها الراهنة حول “حماية الجمهورية الإسلامية الإيرانية من التهديدات، وتوسيع ميليشيا «الباسيج»، وتعزيز إمكانيات الدفاع والردع في البلاد”. كما تدعو إلى “الترويج للوحدوية الإسلامية” و”توطيد وحدة المسلمين” وذلك تحديداً من خلال “التشديد على عقيدتهم المشتركة … وتشجيع الحركة الجهادية في العالم الإسلامي، ودعم حركات التحرير الإسلامية، والدفاع عن حقوق الفلسطينيين”.

ويتضمن القسم الأخير ما مجموعه ستةً وخمسين توصية تتناول كافة جوانب الشؤون المحلية والخارجية للجمهورية الإسلامية. ومن وجهة نظر خامنئي، يتم تطبيق هذه السياسات من خلال تمتع إيران “باستمرار قيادة الفقيه العادل والشجاع والقدير” الذي سيرقى بالبلاد إلى مستويات جديدة بحلول عام 2065، حيث “ستتحول إيران إلى دولة رائدة في إنتاج العلوم الإنسانية الإسلامية والثقافة السامية على المستوى الدولي، وتتبوأ مكانها بين البلدان الخمسة المتقدمة في العالم في إنتاج الفكر والعلم والتقنية”. ويقول إن “السياسات والقوانين والأنظمة المبتنية على الإسلام” التي ستنتهجها إيران في تلك المرحلة ستكون “عاملاً أصلياً للوحدة والأخوة الإسلامية واستقرار المنطقة والعدالة والسلام العالميين”، وسوف تُعد إيران “ضمن البلدان السبعة الأولى في العالم” من حيث “المستوى العام للتقدم والعدالة”.

وكما ذُكِر أعلاه، ينبع على الأرجح قرار الترويج لهذه الإرشادات الحالمة اليوم بدلاً من العام المقبل من رغبة النظام في إظهار ثقته بنفسه وباستدامته – خاصة في مرحلة تشعر فيها النخب الإيرانية بالقلق من التظاهرات المستمرة وسياسة الضغط الأمريكية التي يؤمنون أنها تهدف إلى تغيير النظام. فضلاً عن ذلك، يمكن اعتبار هذه الخطوة بمثابة تحذير من خامنئي إلى أوروبا والولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة إلى أن طهران تنوي الاستمرار باستخدام التحدي، والنزعة الإسلامية الشاملة، وعمليات التوسع كمكونات أساسية في دبلوماسيتها الإقليمية.

إعادة التأكيد على الفكر الثوري

يصوّر النموذج رؤية خامنئي لإيران ليس باعتبارها دولة قومية فحسب بل بصفتها قائدة “حضارة إسلامية حديثة”، وذلك تمشياً مع الوصف المعتاد الذي يتردد في وسائل الإعلام الحكومية عن خامنئي بأنه “حامي العالم الإسلامي”. فحين وصل خامنئي إلى الحكم عام 1989 أثبت جدارته كأكثر من مجرد زعيم سياسي أو قائد أعلى للقوات المسلحة – إذ سعى إلى ترسيخ دوره كالإيديولوجي الأعلى في البلاد وصاحب السلطة المطلقة على المجالات الثقافية والدينية. وعلى الرغم من افتقاره للمؤهلات الدينية اللازمة، أعطى لنفسه الحق بإصدار الفتاوى، وتدريس دورات عالية المستوى في الشريعة، واحتكار السلطة على المؤسسات الثقافية والتعليمية.

وأبرز نتيجة انبثقت عن هذه الذهنية هي التحول الهائل في المؤسسات المركزية الإيرانية، من التغير الثوري في شبكة المنظمات الدينية والمدنية في البلاد إلى إعادة هيكلة «الحرس الثوري الإسلامي» ليصبح هيئة عملاقة متعددة الأبعاد وقوةً إقليمية. فضلاً عن ذلك، كلّف خامنئي الحكومة بأكملها بإنشاء جهاز إيديولوجي قادر على تطبيق سياساته الاستبدادية ومقاومة “الاجتياح الثقافي” الغربي المزعوم للعالم الإسلامي، فيما وصفه “بالنزعة الاستعمارية الجديدة”.

وبطبيعة الحال، فشل المسعى إلى أسلمة الحياة الإيرانية إلى حدٍّ كبير على أرض الواقع، ويعود ذلك جزئياً إلى غياب الأنظمة الإسلامية القابلة للتطبيق في القطاعات الحيوية، مثل الخدمات المصرفية، ولكن أيضاً بسبب المرونة الملحوظة التي أظهرها المجتمع المدني إزاء محاولات النظام الإيراني تطبيق الشريعة (على سبيل المثال، ارتداء الحجاب). وعلى الرغم من إثبات الآليات والتدابير الأمنية القمعية لفعاليتها في احتفاظ النظام بسيطرته على الحياة السياسية، إلا أن هذا النظام غير قادر على إرغام المواطنين على الانصياع لطلباته الثقافية بالرغم من ضوابطه القسرية الجمّة وسيطرته الاحتكارية على وسائل الإعلام والفضاء الإلكتروني.

ومع ذلك، يشدد نموذج خامنئي للسنوات الخمسين المقبلة على سياسات ثقافية وإيديولوجية فشلت مراراً وتكراراً خلال السنوات الأربعين الماضية. ومن وجهة نظره، إن مهمة الجنود الموكلين بمكافحة هذه “الحرب الناعمة” هي ذو شقين: حماية المجتمع من التلوث بفيروسات العدو الثقافية، وإنتاج محتوى إيديولوجي أصيل يميّز هوية المجتمع الإسلامي.

رفض التنمية الغربية

تتماشى دعوة خامنئي إلى “حضارة إسلامية-إيرانية حديثة” مع نهج المراحل الخمسة الذي وصفه في خطاباته السابقة. المراحل الثلاث الأولى هي “الثورة الإسلامية” و”النظام الإسلامي” و”الدولة الإسلامية”. وحالما يتم ترسيخ الطابع الإسلامي لمؤسسات الدولة، يصبح من واجب المواطنين والوكلاء الحكوميين على حدٍّ سواء العمل على قيام “بلد إسلامي” يصبح بعد ذلك نموذجاً لـ “حضارة إسلامية” أوسع نطاقاً.

ويرى خامنئي أيضاً أن “الحضارة الإسلامية” التي بدأها النبي محمد قاطعها هجومان عسكريان ضخمان هما الحملات الصليبية وغزوات المغول، إذ ترك كل واحد منهما العالم الإسلامي عرضةً للاستعمار والتطبّع الغربي. وتسهم هذه النظرة إلى العالم في فهم سبب رفض خامنئي لنموذج التطور الغربي بشكل متكرر. فعلى حد قوله في خطابٍ ألقاه في أيار/مايو 2009، “لا يجدر بالتقدم أن يعني التطور بمعناه الغربي… فالغرب يقصد بالدولة ‘المتطورة’ البلد الغربي بكافة ميزاته وثقافته وعاداته وميوله السياسية. ويشير مصطلح ‘البلد النام’ إلى بلدٍ في طور التطبع الغربي، بينما يعني مصطلح ‘البلد المتخلف’ بأنه دولة لم تتمثل بالغرب وليست في طور التمثل به.

وفي المقابل، ينادي خامنئي بما يسمّيه “الحضارة الإسلامية” باعتبارها مسعى أصيل لإحياء تجربة النبي محمد وقدوته، بعيداً عن العناصر المادية المحضة وطموحات الحداثة. وتجدر الإشارة إلى أن سلفه، آية الله العظمى روح الله الخميني رفض بالمثل النسخ غير الثورية عن الإسلام، مصوّراً هذا التقسيم القائم على المجابهة على أنه معركة بين “الإسلام المحمدي البحت” و”الإسلام الأمريكي”. وسعياً من خامنئي إلى منح خطابه حول هذا الموضوع سلطةً فقهية، لا يتوانَ عن اقتباس تعابير منظّرين عقائديين مسلمين راحلين أمثال سيد قطب وعلي شريعتي، إلى جانب مفكرين من مرحلة ما بعد الاستعمار أمثال إدوارد سعيد. على سبيل المثال، يسرد أكثر من نصف النموذج الجديد مميزات مَدينة فاضلة تشبه إلى حدٍّ كبير ما سبق للعديد من الإسلاميين الآخرين أن وصفوه على مر السنوات المائة الماضية.

الخلاصة

إذا أخذنا بالمبادئ التوجيهية المدرجة في بيان خامنئي مجتمعةً، نجد أنها لا تَعِد إلا بالمواظبة الدؤوبة على إبقاء الطابع الثوري للجمهورية الإسلامية، بما يشمله ذلك من مقاومة أي جهود محلية لإصلاح تطلعات النظام الإيديولوجية، أو الأهم من ذلك، ميوله فيما يخص صنع القرار.

مهدي خلجي

معهد واشنطن