15 سنة على رحيل إدوارد سعيد ناقد المركزية الأوروبية

15 سنة على رحيل إدوارد سعيد ناقد المركزية الأوروبية

ثمة بشر يعتقدون أن زمنهم هو فقط حياتهم على الأرض، فيندمجون في نزعة دنيوية، لا يحققون معها سوى سعادة لحظية. وفي المقابل، هناك من يعتقدون بامتداد زمنهم إلى ما بعد عالمنا، حيث عالم الغيب الذي فيه تتحقق السعادة الأبدية، لذا يتوجب انتظاره والعمل لأجله وحده. وهناك فريق ثالث يبحث في الزمن عن بعد ثالث (تاريخي) لا يذوب معه الإنسان في وقائع الحياة اليومية، ولا ينتظر حالماً بتفاصيل الحياة الأبدية، بل تحركه رغبة الخلود داخل التاريخ البشرى نفسه، وهذا الفريق من القلة المبدعة من البشر، شخوصه لا يموتون بموت الجسد إنما يدخلون دورة حياة جديدة، بل إن البعض منهم تبدأ حياته الحقيقية بعد موته العارض، إذ يتراجع غيابه الجسدي أمام حضوره الرمزي، طالما استمر ملهماً لوجودنا، ومحفزاً لنضالاتنا ضد الطغيان النازع إلى التحكم بمصائرنا.

ولعل أحد أبرز هؤلاء الذين هزموا الغياب بالحضور، والجسد بالروح، هو المفكر الكبير إدوارد سعيد، الذي تمر هذا الشهر، خمس عشرة سنة على رحيله، بعد أن عاش بهويه جامعة تداخلت فيها عناصر شتى، متناقضة أحياناً، لا تجتمع إلا عنده، ولا تتكامل إلا فيه فكأن حياته مرآة لهويته، وهويته إلهاماً لحياته، حتى غيبه الموت وغادر المكان، بعد حياة ثرية امتدت إلى سبعة عقود، عاش الأخير منها في صراع شرس مع المرض الخبيث قبل أن يذوى جسده النحيف، من أسفل العقل القوي المستنير الذي حمل عبء النضال الأخلاقي والسياسي الطويل، مغيباً ذلك الوجدان الذي امتزجت داخلة الهويات كلها من عربية نبتت في فلسطين ونمت في لبنان وتفتحت في القاهرة، إلى أميركية أينعت وازدهرت عبر مراحل الدرس والتدريس، وبين الأساتذة والزملاء والطلاب في جامعة كولومبيا، حيث تعلم الأدب المقارن واستوعبه ثم وسع مداركه حتى بلغ به أفق النظرية الثقافية، مندفعاً إلى الفضاء الفكري الرحيب عبر الكثير من المحاضرات والسجالات التي سجلت نزوعه الإنساني المتعلق بأسمى مثل التنوير كالعدل والحرية والسلام، والرافض نزعة التمركز الغربي حول الذات تلك التي تورطت في وحل الكولونيالية ونالت من كل شعوب الدنيا اقتصادياً وسياسياً بزعم دنوهم أخلاقياً أمام الشعوب الأوربية المسيحية ذات الرسالة الإلهية/ الكونية، والتي اضطلعت بمهمة ترقية الإنسانية البدائية خارج إطار المدنية الغربية.

وبجانب سجالاته ومناظراته شبه اليومية على صفحات الجرائد والمجلات وأمام حضور لقاءاته ومحاضراته سجل إدوارد سعيد نزعته الإنسانية تلك بين دفتي عشرات الكتب، والتي يبقى من بينها كتابان محوريان في فكر القرن العشرين، ربما ظلا خالدين في ما بقي من الزمان:

الكتاب الأول هو الاستشراق، الذي صدر عام 1978 ليثير موجة من التأمل وإعادة المراجعة لكثير من أدبيات الثقافة الغربية التي كانت قد ترسمت وأخذت مواقعها المعرفية المستقرة وصار لها تاريخها الذاتي في بحث أصول وتمثل وجوه الثقافة العربية – الإسلامية، حيث يعرف سعيد الاستشراق بوصفه تلك المؤسسة المشتركة للتعامل مع الشرق: بإصدار تقارير حوله، وإجازة الآراء فيه وإقرارها، وبوصفه وتدريسه والاستقرار فيه، وحكمه. وبإيجاز، الاستشراق أسلوب غربي للسيطرة على الشرق، وإعادة بنائه، وامتلاك السيادة عليه.

وعلى رغم تأكيده أن هذا هو المنوال الذي نسجت عليه أغلب أعمال المستشرقين حول الثقافة العربية – الإسلامية لصناعة صورة نمطية آخذة تتشكل منذ قرون، وتترسخ منذ القرن الثامن عشر من دون تساؤل جذري حول مدى صحتها أو حول آليات تشكيلها ومصادر إنتاجها، فإن سعيد يفرق تاريخياً، وثقافياً، كمياً ونوعياً بين نمطين من الاستشراق: أولهما (البريطاني – الفرنسي) وهو النمط الرئيسي للتصورات الاختزالية المتوارثة والمقننة التي طالما تحدثت عن فضاء استشراقي واسع يضم عوالم متباينة، تجمع بين الهند وشرق المتوسط بأكمله، ونصوص الكتاب المقدس، وأقاليمه، وتجارة التوابل، والجيوش الاستعمارية، والتراث الطويل من الإداريين الاستعماريين، وقدراً ضخماً من تراث البحث، وأعداد لا تحصى من الخبراء والمساعدين الشرقيين، وجهاز أستاذية شرقية وكوكبة من الأفكار الشرقية «الاضطهاد الشرقي، والأبهة الشرقية، القسوة الشرقية» وعدداً كبيراً من الملل والفلسفات والحكم الشرقية المدجنة للاستخدام المحلى الأوروبي. أما ثانيهما فيتداخل فيه نمط فرعي انتمى تاريخياً إلى دول أخرى لم تكن قريبة من عالم الشرق إلى هذه الدرجة التي توافرت لبريطانيا وفرنسا مثل ألمانيا وإيطاليا، وإن كان قد نسج على منوال يقترب من منواليهما. أو نمط آخر تنامى بعد الحرب العالمية الثانية وهو النمط الأميركي منذ سيطرت الولايات المتحدة على الشرق، فصارت تتناوله بالأساليب التجزيئية نفسها والصور الاختزالية، وإن كان عبر وسائل مختلفة، لا تعول على كتابات الرحالة ولا أعمال الروائيين، ولا السير الذاتية لكبار الديبلوماسيين، بل تعتمد على دراسات المناطق، وجهود الخبراء المنتمين مباشرة إلى الحقل السياسي، والأقرب صلة بتوجهات الهيمنة الاستراتيجية، والذين يعملون، صراحة أو ضمناً، في ظل وتحت رعاية المؤسسات الرسمية.

ما فعله إدوارد تحديداً هو تحليل الأعمال الأدبية المنتمية خصوصاً إلى النمط الأول من الاستشراق، وطرح الأسئلة الكثيرة خصوصاً حول النمط الاستشراقي الثاني، فأطلق موجة من المراجعات داخل كثير من الثقافات الفرعية في الغرب والشرق على السواء، أنتجت منذ الثمانينات نزعة إنسانية نقدية، وجدت لها أصداء في الثقافة العربية، أخذت تسعى إلى فحص وتأمل موقفها التاريخي من الغرب انطلاقاً من معايير موحدة ومستهدية بمرجعية شاملة من قيم الحرية والعدالة والسلام، وإلى كشف التناقضات العميقة في الثقافة الغربية بين خطابها الفلسفي وممارساتها العملية، وهي النزعة التي مكنت إدوارد سعيد نفسه من أن يكون عربياً فلسطينياً يدافع عن قضيته المركزية على بعد خطوات من الكهف الصهيوني وعلاقاته الأخطبوطية بالمجتمع الأميركي، من دون أن يقع في تناقض مع هويته الرسمية كمواطن أميركي، إذ مكنته إنسانيته النبيلة، ومرجعيته المتسقة من التوفيق دوماً بين هذه وتلك.

وأما الكتاب الثاني «الثقافة والإمبريالية» فوصل فيه إدوارد سعيد إلى ذروة الحس الإنساني في مواجهة تيار المركزية الغربية، الذي شكل تدريجياً منذ القرن الثامن عشر نسقاً فكرياً كاملاً متمركزاً حول ذاته، استند إلى نتاج بعض العلوم الحديثة، بخاصة في حقلي الأنثروبولوجيا، واللغات، في تقديم نظريات ذات منحى عنصري واضح استهدفت تحقيق أمرين أساسيين: أولهما هو صياغة ذات غربية متطهرة، وموحدة، ومتجانسة، مستمرة في كل الزمن، وحاملة أسمى القيم وعلى رأسها الحرية، ومرتكزة على عقلانية تلهمها مصادر التراث الغربي وعلى رأسها المعجزة الفلسفية اليونانية، وذلك من دون تناقضات أو حتى انقطاع في هذه المسيرة الممتدة منذ خمسة وعشرين قرناً من الزمان‏. بل ويشرح سعيد كيف تم استثمار نظرية «الكيوف الأرسطية» وتوسيعها من جانب، واختزالها من جانب آخر بما يجعلها تدعم الفكرة القائلة بتفوق الإنسان الغربي. وثانيهما هو صياغة ذات نقيض تعج بكل ما هو سلبي للآخر الذي يغدو مزيجاً من رذائل التخلف، والغريزية، والقهر، وذلك بوضع أو تبرير وجود حدود «عرقية» بين الغرب والآخرين كما دعا آرثر دو جوبينو مثلاً، مؤكداً التفاوت بين الآريين وشتى الأعراق الأخرى. وقد أضاف نيتشه وهيغل إلى هذه الحدود العرقية، طبقات فلسفية أعطتها أبعاداً أرقى وأخطر كرست للتفوق العقلي أيضاً وليس العرقي فقط. كما أضاف إليها إرنست رينان طبقات لغوية سعت إلى وصم اللغة العربية/ السامية بالتخلف والقصور عن مجاراة اللغات الآرية، فتعالت هذه الحدود تدريجياً حتى شكلت أيديولوجيا متكاملة ادعت عبر توليفات نظرية وتحيزات علمية تبلغ حد التزييف بسمو الغرب عرقياً ودينياً وفكرياً، وبوجود جدران عالية وحوائط فاصلة بينه وبين الشرق لا يمكن عبورها إلا بإعادة تربية هذا الشرق ومدينته، ولو عبر احتلاله واستيطانه.

وينطلق سعيد من نقد المركزية الأوروبية إلى نقد الإمبريالية الأميركية (الجديدة) ضد العالم كله وليس العرب وحدهم مؤكداً التعددية الثقافية كوجه آخر للحرية الإنسانية، وضرورة التفاعل الثقافي السلمي لإنماء الإنسانية وازدهارها من دون تعال عنصري أو ادعاء بالرسالة التي تغدو وجهاً آخر لإمبريالية تهدد قيم السلام بين الشعوب، والعدل بين البشر بل وتفسد المجتمعات الغربية نفسها. وهنا يصل إدوارد إلى جوهر التنوير الغربي على طريقة كانط الذي اعتقد عند صياغته مثل الحداثة السياسية بأن التاريخ مدفوع إلى الرقى ولكن ذلك لن يتحقق إلا إذا تأسست منظومان قانونيتان تسيران جنباً إلى جنب، إحداهما تسير الشؤون الداخلية للمجتمع الواحد على أساس الحرية والعدل وصولاً إلى الديموقراطية، والأخرى تنظم العلاقات بين الأمم على أساس من العدالة والتكافؤ وصولاً إلى السلام، مؤكداً أنه لا يمكن تحقيق الحرية داخل الأمم إذا لم يتحقق العدل والسلام بين هذه الأمم، لذا كان الرجل، وعبر عقود طويلة، أحد أبرز العقول التي منحت الثقافة العربية وجهاً إنسانياً، ودافعت عنها انطلاقاً من قاعدة صلبة ومتسقة من القيم التقدمية، في واحدة من مراحلها الصعبة، لهذا سيبقى جزءاً من ذاكرتها الحية والملهمة، على رغم الرحيل الذي يمر عليه اليوم نحو عقد ونصف العقد من الزمان.

صلاح سالم

الحياة