خيّبت قمّة إسطنبول الرباعية توقعات المتفائلين بأن تحقق خرقا سوريا في المسار السياسي، ما جعل أغلب التحليلات تصفها بالفاشلة.
القمة فاشلة بالنسبة للسوريين الذين ينتظرون انفراجا سياسيا يضمن إيقاف الحرب؛ لكنها بالنسبة إلى الدول المشاركة فيها، وبالقياس إلى الغرض من عقدها، فكانت ناجحة، وحققّت الهدف المطلوب منها، كقمة توافقية، بين حاضريها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والرئيس الروسي فلاديمير بوتين والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ونالت رضى الغائبين أيضا؛ إيران والولايات المتحدة.
منذ قمة سوتشي، التي تخصّ اتفاق إدلب في 17 سبتمبر الماضي، يلمس المتابع للحدث السوري تطورا واضحا في الدور التركي باتجاه فاعلية أكبر. فأنقرة غارقة في المشكلات السورية؛ فهي تريد حلا جذريا لملف أعدائها التقليديين؛ الأكراد، تجنّبا لعدم تشكّل كيان انفصالي كردي على حدودها الجنوبية، إضافة إلى أنها تتحمل أعباء اللّجوء، وتحتضن المعارضة السياسية والعسكرية، ولها فصائل سورية تتبع لها في عفرين وجرابلس.
لكن تباعد الأتراك عن الأوروبيين والأميركيين بسبب الخلافات على قضايا خارج سوريا، والحصار الاقتصادي والمالي الذي تعرضت له تركيا نتيجة العقوبات الأميركية على صادراتها، والتهديدات الأميركية لها بالسماح للحزب الاتحاد الديمقراطي بالتمدد غرب الفرات، وبإعلان الفيدرالية، كل ذلك جعل تركيا في السابق في موقف ضعيف، ودفعها إلى الخضوع للأجندة الروسية، والتحالف معها ومع إيران في اتفاقات أستانة لخفض التصعيد، وفي مؤتمر سوتشي “للحوار الوطني السوري”.
حسمت الإدارة الأميركية موقفها بشأن البقاء في سوريا، بعد تعيين شخصية قوية بوزن جيمس جيفري مبعوثا خاصا إلى سوريا، مهمّته تتمحور حول الاستراتيجية الدبلوماسية والعسكرية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط.
وضع جيفري أهدافا ثلاثة لواشنطن في سوريا، وهي القضاء على تنظيم داعش، وإخراج القوات الإيرانية والميليشيات التي تدعمها من سوريا، وإرساء عملية سياسية تقوم على تغيير سياسي وفق القرار 2254.
الموقف الأميركي الحاسم بالبقاء في سوريا، والأهداف الواضحة لها فيها، جاءا بالضد من تفرّد روسيا بالتحكم بمستقبل سوريا. يضاف إلى ذلك الحلف السباعي الأميركي- الأوروبي- العربي لدول “المجموعة المصغرة”، والذي نشط في الأشهر الأخيرة وقدم رؤيته للحل السوري بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، كل ذلك قوّى موقف أردوغان أمام بوتين، وساهم في إنجاز اتفاق إدلب في سوتشي، بعد أيام من فشل قمة الدول الضامنة في طهران.
حسمت تركيا أمرها بشأن استعادة علاقاتها القوية مع الولايات المتحدة، فأطلقت سراح القس الأميركي المحتجز لديها أندرو برانسون. وشعرت بارتياح بعد عودة التنسيق مع الأميركيين بشأن التفاهمات المشتركة في ملفات منبج وعفرين؛ هذا ما أعطاها زخما، ودورا مهما تجلّى في القمة الرباعية في إسطنبول.
بيان القمة الرباعية لم يتطرق إلى الوجود الإيراني في سوريا، ومازالت كل من أنقرة وموسكو متمسكتين بتحالفهما مع طهران
تتشارك تركيا مع روسيا في ملفات خفض التصعيد ميدانية الطابع، لكنها تختلف معها سياسيا حول رؤيتها للحل السوري، حيث تتقارب أكثر مع واشنطن والأوروبيين، وهذا ما جعلها تأخذ دور الوسيط بين محورين متصارعين على الأجندة السورية؛ وهي تسعى إلى تقريب وجهات النظر بين واشنطن وموسكو للتوصل إلى دستور لسوريا موحدة بحكم مركزي تشارك فيه المعارضة التي تدعمها.
بالتالي، تستثمر أنقرة في مخاوف الأطراف المشاركة في القمة، كل على حدة، لتلعب دور وسيط بينها، قد يفتح الباب على إنهاء الأزمة السورية. فروسيا لديها مخاوف من خسارة حليفها التركي، لمصلحة تحالفه مع واشنطن، لذلك شاركت موسكو بالقمة، ووافقت على ترسيخ اتفاق إدلب، وصمتت عن المطالبة بإنهاء تواجد التنظيمات المتطرفة في إدلب، مقابل فتح معبر مورك أمام الحركة التجارية على طريق دمشق حلب، ولاحقا فتح الحركة على طريق حلب اللاذقية.
هدّأت قمة إسطنبول مخاوف فرنسا وألمانيا بشأن اندلاع حرب واسعة في إدلب مجددا، وتدفق المزيد من اللاجئين عبر الأراضي التركية إلى أوروبا، ومعهم جهاديون أوروبيون عائدون إلى بلادهم. وبالتالي حققت تركيا تقاربا جديدا مع دولتين تشاركان واشنطن في تحالف المجموعة المصغرة بشأن سوريا. بيان القمة الرباعية لم يتطرق إلى الوجود الإيراني في سوريا، ومازالت كل من أنقرة وموسكو متمسكتين بتحالفهما مع طهران.
واشنطن راضية عن نتائج القمة، وهي حاضرة بثقل تواجدها العسكري في مناطق واسعة شرق وشمال شرق سوريا، وتأكيدها على رؤيتها للجنة الدستورية، وحاضرة أيضا عبر التنسيق مع فرنسا، حيث تشاور ماكرون مع ترامب هاتفيا حول القمة قبل انعقادها، وحاضرة أيضا عبر التنسيق مع تركيا، حيث زار وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، ومديرة جهاز الاستخبارات جينا هاسبل تركيا قبل القمة.
بعد القمة الرباعية، سمحت تركيا لفصائل جبهة تحرير سوريا بمحاربة هيئة تحرير الشام، واستقدمت فصائل درع الفرات إلى إدلب لهذه الغاية. كما أطلقت حملة عسكرية ضد وحدات الحماية الكردية في عين العرب ومحيطها، ورافقتها تصريحات تركية بالتوجه إلى تل أبيض، ما يظهر مدى الارتياح التركي لنتائج اللقاء الرباعي.
اللافت أن القصف التركي لمناطق حلفاء واشنطن شرقي الفرات يقابله غزل أميركي، جاء على لسان نائب المتحدّثة باسم الخارجية الأميركية، روبرت بالادينو، بأنهم “ملتزمون بأمن حدود حليفتنا” وأنه “من الأفضل أن يكون هناك تشاور وتنسيق بين أنقرة وواشنطن بخصوص قلق الأولى الأمني”، ما يعني أن الولايات المتحدة تريد الحفاظ على مصالحها في سوريا، وبالضد من مآرب روسيا، عبر التقارب مع تركيا، ومستعدة للتضحية بتحالفها مع قوات سوريا الديمقراطية لهذه الغاية.
سعي أميركي للتقارب مع تركيا، وانتزاعها من حضن روسيا، وسعي آخر روسي للحيلولة دون خسارة تركيا، ضمن كل ذلك تفضّل تركيا الانفتاح على المحورين، على اختيار أحدهما، خاصة أنه عَنَى لها مع روسيا الخضوع لإرادتها.
يعطي هذا التوسط التركي أنقرة قوة بشأن دورها في سوريا، وتضاف له علاقاتها القوية مع إيران، وتنسيقها مع فرنسا وألمانيا بشأن الحفاظ على حالة التهدئة، والتوصل إلى حل بشأن الجهاديين، مع منعهم من الانتقال إلى أوروبا.
تدرك تركيا أن التسوية السورية تحتاج إلى توافق روسي أميركي حولها، وهي تسعى إلى أن يتم هذا التوافق عبرها، فإخراجها من معادلة الحل السوري سيضعها أمام احتمال القبول بنظام فيدرالي يهدد أمنها.
رانيا مصطفى
العرب