في فترة استعداد أميركا للذهاب إلى صناديق الاقتراع في 6 تشرين الثاني (نوفمبر)، أصبح البلد أكثر انقساما وغضبا مما كان عليه في أي وقت منذ عقود. وكانت الحملات السياسية لانتخابات منتصف المدة مشوبة بمعاملة الساسة بعضهم البعض بشكل روتيني كمارقين، أو حمقى، أو خونة. وفي الأيام الأخيرة، قام مؤيد للرئيس ترامب بإرسال رسائل ملغومة بقنابل إلى 14 من خصوم الرئيس، وقتل أحد التفوقيين البيض 11 مصليا في كنيس يهودي، في أسوأ عمل معاد للسامية في التاريخ الأميركي.
تشكل السياسة الفيدرالية السامة أعظم نقاط ضعف أميركا. فهي تحول دون العمل على القضايا الضاغطة الحقيقية، من الهجرة إلى الرفاه الاجتماعي؛ وهي تحتّ إيمان الأميركيين بحكومتهم وبمؤسساتها؛ وهي تُعتم ضوء منارة الديمقراطية الأميركية في الخارج. وتشكل الانتخابات النصفية فرصة للشروع في وقف التعفن –بل وحتى بدء المهمة الشاقة المتمثلة في معالجة أسبابه.
لم يكن السيد ترامب هو الذي بدأ هذا الإذلال. لكنه اعتنقه بحماسة مثل أي شخص آخر، وحمله إلى أعماق جديدة من صنعه الخاص. كل الساسة يقومون بتشويه الحقيقة. ويكذب السيد ترامب بلا وازع –أكثر من 5.000 مرة منذ تنصيبه، وفقا لصحيفة “الواشنطن بوست”. وخداعه وقح جدا وفعال، حتى أن الكثير من أنصاره يأخذون كلمته أعلى من كلمة أيّ من منتقديه، خاصة أولئك في الإعلام، وفي وجه كل دليل على ما يبدو. وهذا يناسب السيد ترامب، بما أنه لا يتم تصديق أحد من منتقديه، فإنه يظل آمناً من المحاسبة. لكن هذا الوضع كارثي على أميركا. فبمجرد أن يخسر النقاش العقلاني قدرته على كسب الجدالات، لن يعود بوسع الديمقراطية أن تعمل.
كما أن السيد ترامب مثير للانقسام عمداً. كل السياسيين يهاجمون خصومهم، لكن الرؤساء يرون أن من واجبهم توحيد البلد بعد مأساة. ويعتقد السيد ترامب وحده بأن إطلاق النار في كنيس “شجرة الحياة” يشكل فرصة للانقضاض على الإعلام والديمقراطيين بسبب انتقادهم له. وهو فقط من يستطيع اقتراح أن عليه رفع لهجة خطاباته المتفجرة بدلاً من تهدئتها. وهذه النزعة التقسيمية تحدث فارقاً لأنه، عندما يكون خصومك سيئون، ببساطة، فإن التسوية -التي هي وظيفة كل السياسات الصحية- تصبح صعبة ومتعذرة في داخل الأحزاب، وشبه مستحيلة بينها.
ليس السيد ترامب السياسي الوحيد الذي يسمح بدخول الانقسام –سوى أنه الأكثر قوة وواحد من الأكثر رسوخاً في هذا المضمار. قبل انتخابه، قال أكثر من نصف الديمقراطيين لمستطلعي الآراء أنهم خائفون من الجمهوريين، وقال نصف الجمهوريين تقريباً الشيء نفسه عن الديمقراطيين. وبعد أن أطلق رجل مسلح مضطرب العقل النار على عضو جمهوري في الكونغرس في الصيف الماضي، أعرب الديمقراطيون البارزون عن “الغضب” من اقتراح أن يكون خطابهم قد لعب أي دور في التحريض. ومع ذلك، استخدموا محاولات التفجير بالرسائل المفخخة وحادثة إطلاق النار في الكنيس للشروع في نقاش حول الدرجة الدقيقة للمسؤولية الرئاسية عن الإرهاب المحلي.
إن الديمقراطية الأميركية قوية –وقد صُممت لتكون كذلك. ومع ذلك، يتم حقن مؤسساتها، واحدة فواحدة، بنوع سُمّي من الاستقطاب. وقد التقط الكونغرس العدوى في التسعينيات، عندما كان نيوت غينريتش رئيسه. كما سقط الإعلام أيضاً ضحية لنزعة الشك الحزبية –بين المتلقين بالتأكيد، إن لم يكن أيضاً بين جماعة الإعلام أنفسهم. ويصدق 11% فقط من الذين يؤيدين السيد ترامب بقوة وسائل الإعلام السائدة، بينما يثق 91% منهم بالسيد ترامب، كما وجد استطلاع أجرته محطة “سي. بي. إس” الإخبارية في الصيف الماضي. وبين الديمقراطيين، تميل هذه المعتقدات إلى أن تكون معكوسة. والآن، أصبح يُنظر إلى المحكمة العليا على أنها حزبية أيضاً. ويرى الديمقراطيون في التعيين الجديد لبريت كافانوه لرئاسة المحكمة اقتحاماً لشخص حزبي ربما يكون قد كذب بشأن اعتداء جنسي، والذي لن يكون قادراً على وضع القانون فوق مصلحة حزبه. وعلى النقيض من ذلك، يرى الجمهوريون في تعيينه انتصاراً على مؤامرة ديمقراطية وحشية لتقويض رجل محترم. ثمة رئيس تنفيذي غير شريف، يتواطأ مع هيئة تشريعية متزلفة، ويتلقى الدعم من سلطة قضائية متحزبة: إذا وصل الأمر إلى هذا الحد، فإن أميركا ستكون حقاً في ورطة حقيقية.
ما الذي ينبغي فعله؟ تماماً كما أن السياسة الأميركية لم تفسد بين عشية وضحاها، فكذلك سيكون الطريق إلى الأمام، بخطوات كثيرة صغيرة، تبدأ بالانتخابات النصفية الحالية. وأولى هذه الخطوات هي أن يتحول مجلس النواب، كحد أدنى، إلى السيطرة الديمقراطية.
وهذا مهم لأن السيد الترامب يجب أن يخضع لرقابة الكونغرس. فهو يظهر ازدراءاً للأعراف التي كانت قد قيدت الرؤساء السابقين بدرجات مختلفة –سواء كان ذلك عن برفض الكشف عن إقراراته الضريبية؛ أو مزج العمل الرسمي بالعمل الخاص؛ أو التنمر على المسؤولين الذين يعملون، مثلاً، في وزارة العدل الذين ينبغي أن يكونوا مستقلين. ويجب أن يقيم الكونغرس جلسات استماع للتحقيق في مثل هذه التصرفات. لكن الجمهوريين في المجلس فشلوا بشكل متكرر في القيام بذلك، متجاهلين الاضطلاع بمسؤوليتهم الدستورية. وعندما ووجهوا بحكم الأجهزة الاستخبارية بأن روسيا تدخلت في الانتخابات الرئاسية، على سبيل المثال، قاموا باستدعاء المسؤولين الذين يشرفون على التحقيق للشهادة حتى يجعلوا عملهم أكثر صعوبة. ويعني تنازلهم عن المسؤولية أن استمرار أغلبية جمهورية في مجلس النواب سوف يقوض في النهاية حكم القانون.
إذا فاز الديمقراطيون بالسيطرة على مجلس النواب، فإن ذلك سوف يفيد كلا الحزبين على المدى البعيد. وسوف تشجع هزيمتهم بعض الجمهوريين على الشروع في الدفع ببديل محافظ للترامبية. وسوف تؤدي هزيمتهم في مجلس الشيوخ أيضاً إلى منح ذلك الجهد قوة دفع كبيرة، ولو أن ذلك يبدو غير مرجح. وعلى النقيض من ذلك، سوف يؤدي دوام الوضع الراهن إلى تعزيز استيلاء ترامب على الحزب الجمهوري.
تعتمد الحسابات بالنسبة للديمقراطيين على خطر التعرض للهزيمة. وهم ما يزالون حتى هذه اللحظة في خضم جدال بين المركز وبين الجناح المتطرف للحزب. ويمكن أن تؤدي خسارة أخرى إلى دفعهم نحو اليسار. وإذا كسب الديمقراطيون مرة أخرى أغلبية من الأصوات، وإنما انتهى الأمر بهم بأقلية من المقاعد، فإن الحزب ربما يجد إغراء في بناء برنامج على أساس سياسات خرق القواعد، مثل توسيع حجم المحكمة العليا أو إقالة القضاة. وعلى النقيض من ذلك، سوف يؤدي الاستيلاء على مجلس النواب إلى تقوية موقف معتدلي الحزب.
كما أن الحكومات المنقسمة لم تذهب دائماً إلى حالة من الجمود. فحتى في هذه الآونة، يتفق الرئيس والديمقراطيون في الكونغرس على بعض الأمور، مثل بناء البنية التحتية، ومواجهة الصين ومحاربة وباء الأفيون. وهكذا: دعهم يتقاتلون من أجل كل شيء آخر، ولكن ضع جانباً ازدراءهم المتبادل لبعضهم البعض في السعي إلى سياسات يستطيع كل منهم ادعاء الفضل فيها. ربما يظهر مثال واحد إمكانية وجود قيمة وكرامة في التسوية.
لن تتمكن أميركا من إصلاح سياساتها في انتخابات واحدة. وفي الحد الأدنى، سوف يتطلب إحراز التقدم المزيد من الانتخابات، وتجديداً للحزب الجمهوري، ورئيساً مختلفاً ببوصلة أخلاقية مختلفة. لكن النتيجة المباشرة للانتخابات الحالية يمكن أن تشير إلى الطريق.