فوز اليميني المتطرف في الانتخابات الرئاسية البرازيلية مثل مؤشرا جديدا على تحولات سياسية واسعة النطاق يشهدها العالم قد تغير معالمه التي عرفها منذ عقود طويلة. فقد كانت ما تسمى بالعولمة أو القيادة السياسية العالمية تحكم العلاقات الدولية خلال العقود السبعة الماضية، لكنها اليوم تنهار أو تكاد في جميع أنحاء العالم، وتحل مكانها الحركات ذات التوجهات الشعبوية المتطرفة.
يوم الأحد الماضي، فاز برئاسة البرازيل بول بولسينارو، وهو من أبرز زعماء اليمين المتطرف، والذي أبدى إعجابه بالدكتاتورية العسكرية السابقة لبلده. ويوم الاثنين، أعلنت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل أنها ستستقيل قريباً كرئيس لحزب يمين الوسط وتتخلى عن السلطة كلياً عام 2021. وهذا يتزامن مع صعود الأحزاب المعادية للمهاجرين في بلدها وأوروبا بشكل عام. هذه أحدث علامة على أن قادة الوضع الراهن -الذين يعتقدون أن العولمة تؤدي إلى تقدم اقتصادي واجتماعي، على سبيل المثال- فقدوا موطئ قدم لهم.
يقول ماثيو بوروز المسؤول الكبير السابق في الاستخبارات الأميركية الذي كان مسؤولا عن تحديد الاتجاهات العالمية لصالح الحكومة لموقع فوغز “هناك انهيار للمركز، أو بشكل أكثر دقة المؤسسات السياسية التي لا تستطيع الاستجابة لمخاوف الناخبين”.
يقول الخبراء إن الناس من أوروبا إلى أميركا اللاتينية يشعرون بقلق متزايد بشأن رفاههم الاقتصادي وسلامتهم العامة. والمشكلة على ما يبدو هي أن الحركات الشعبوية -خاصة تلك الموجودة في أقصى اليمين- هي التي تقدم حلولاً جديدة لكيفية تلبية تلك الاحتياجات.
تقول ألينا بولياكوفا الخبيرة في الحركات اليمينية المتطرفة والسياسة الأوروبية في معهد بروكينغز البحثي بواشنطن “المركز يضعف، واليسار واليمين يملأن الفراغ”. وتضيف في تصريحات لموقع فوغز “الناخبون يبحثون عن أفكار واضحة ولا يريدون أن يسمعوا من البيروقراطيين الذين كانوا يعيدون نفس النقاشات منذ عقود”. وتؤكد أنه حتى لو كانت حلول الشعبوية غير مستساغة فإنها تقدم على الأقل رؤية مستقبلية بينما لا يتوفر لدى المركز المؤيد للعولمة سوى القليل من العروض الأخرى. في الواقع، فإن نوع الحوكمة العالمية التي تبنتها هذه المراكز -الذي يشجع البلدان على العمل معاً لتحسين اقتصاد وأمن العالم- يتعرض لتهديد شديد، ولا يوجد ما يشير إلى أن هذا التهديد ينحسر.
العاصفة الأوروبية
بعد الحرب العالمية الثانية، كان هناك جهد بقيادة الولايات المتحدة لخلق ما يعرف الآن باسم “النظام الدولي الليبرالي”. وقد وافقت الدول بشكل أساسي على التخلي عن بعض سيادتها والتقيد بالقواعد العالمية، ومعظمها حول كيفية تحقيق الاستقرار في الاقتصاد العالمي ونزع فتيل التوترات قبل اندلاع حرب جديدة.
وقد أخذت أوروبا هذا الأمر على محمل الجد حيث انضم ما يقرب من 30 دولة إلى الاتحاد الأوروبي الذي يعمل كبلد ضخم من خلال السماح بحرية الحركة للأفراد والأموال، وهو بذلك يقف في طليعة العولمة، حيث أصبحت دوله مرتبطة مع بعضها البعض اقتصاديًا وسياسيًا بمرور الوقت.
لكن الأزمة المالية عام 2008، وزيادة الهجمات الإرهابية على القارة، وتدفق ملايين اللاجئين الذين ينتقلون إلى أوروبا غذت رد فعل معاكس لتلك العولمة. وقد استفادت من هذا الشعور المتنامي الأحزاب السياسية الضعيفة في أوروبا التي كانت تؤمن بضرورة كبح العولمة.
تقول بولياكوفا “إنها ليست ظاهرة جديدة.. قد يبدو الأمر وكأنه انفجار مفاجئ من الزخم، لكن هذه الأزمات أعطت للتو مزيدًا من الدعم لهذه الأحزاب القادرة على حشد الجماهير بطريقة لم يقدر عليها المركز” وهذا ما أدى إلى سقوط ميركل.
وعلى مدى 13 عامًا، شجّعت ميركل سياسات تتماشى مع رسالة الاتحاد الأوروبي والحوكمة العالمية بشكل عام. لكن، بوضوح، الألمان الآن يريدون التغيير. فقد خسرت حكومة ائتلافها المكونة من حزب يمين الوسط وحزب يسار الوسط في الانتخابات الإقليمية التي جرت في أكتوبر/تشرين الأول. في الوقت نفسه، حصل كل من حزب الخضر اليساري وبديل لألمانيا اليميني المتطرف على الدعم الشعبي. وقد استمر صعود اليمين المتطرف الذي احتل المركز الثالث بشكل عام في الانتخابات العامة 2017.
وقالت ميركل في مؤتمر صحفي يوم الاثنين إن أيامها في السلطة ستنتهي بعد ثلاث سنوات من الآن. يقول بوروز “إن الأمر يتعلق بتعب الجمهور من نفس القائد القديم في السلطة”.
ألمانيا ليست وحدها في هذا الاتجاه. فقد شهدت المجر وبولندا والنمسا وإيطاليا وغيرها تنامي حركات اليمين المتطرف. وخسر الحزب الاشتراكي اليساري الوسطي القوي تاريخياً في فرنسا كثيرا في الانتخابات الوطنية التي جرت في مايو/أيار 2017 وقد تستغرق استفاقته عدة سنوات. وفي إسبانيا، انتهت البنية الحزبية القائمة على اليمين واليسار التقليديين نتيجة صعود حزبين جديدين من خارج الساحة.
وعلى ذلك، فإن الحركات الشعبوية في أوروبا قد لا تبقى طويلا بعد الآن على الهامش. وتقول بولياكوفا “هذه عاصفة مثالية لإعادة هيكلة كاملة للسياسة في جميع أنحاء العالم، واليسار الوسطي هو ما يلام أكثر من غيره على ذلك”.
فوز بولسونارو
فشل حزب يساري رئيسي في البرازيل يفسر لماذا اختار الناخبون مرشح اليمين المتطرف لقيادتهم. تقول جانا نيلسون الخبيرة في شؤون البرازيل بالخارجية الأميركية من 2010 إلى 2015 “يُفسَّر انتخاب بولسونارو على أنه رد فعل عنيف ضد حزب العمال” ذي الميول اليسارية الذي كان في السلطة لأكثر من عقد من الزمن. وتضيف “انتخاب رئيس متشدد مناهض للأقلية وأحياناً كاره للنساء، في الغالب نتيجة للغضب من اليسار، ورفضه.”
فقد أصيب الناخبون في البرازيل بالإحباط من الوضع الراهن بسبب مجموعة من الأزمات السياسية والاقتصادية. ولا يحظى ميشيل تامر رئيس يمين الوسط الحالي بشعبية كبيرة في أعقاب اقتصاد يكافح وفضيحة فساد واسعة النطاق أحاطت بالوزراء في حكومته. وقد تولى تامر منصبه خلفا للرئيسة ديلما روسيف من حزب العمال التي تم عزلها عام 2016. ويقضي سلفها اليساري لويس إيناسيو لولا دا سيلفا حكما بالسجن لمدة 12 سنة بتهمة الفساد. ولا يزال الرجل يتمتع بشعبية في البرازيل، وحاول إجراء حملة إعادة انتخاب من السجن لكن تم منعه في النهاية من خوضها. ولو سمح له لربما كان المرشح المفضل في الانتخابات الرئاسية.
وتحت قيادة حزب العمال، ارتفعت الجريمة إلى عنان السماء. وشهدت البلاد معدل 175 حالة قتل يوميًا عام 2017 – وهي زيادة بنسبة 3% عن العام السابق. وربما ليس مفاجأة أن يختار البرازيليون تغييرًا جذريًا حتى إن لم يكن مستساغًا. ويرى بعض الخبراء فوز بولسونارو كجزء من اتجاه أكبر في المنطقة.
تقول نيلسون “فوز بولسونارو يشير إلى تحول نحو النزعة الشعبوية في أميركا اللاتينية. لم تعد قضية اليسار أو اليمين” -إلى جانب فوز أندريس مانويل لوبيز أوبرادور الرئاسي هذا العام في المكسيك- وهذا ما يعني حقبة من القيادة الشعبية اليسارية.
لكن فابيانا بيريرا الخبيرة في السياسة الأميركية اللاتينية بجامعة جورج واشنطن ليست متأكدة، فقد انتخبت كولومبيا هذا العام إيفان دوكي، وهو سياسي من يمين الوسط. والعام المقبل، ستشهد المنطقة انتخابات رئاسية في الأرجنتين وبوليفيا وأوروغواي. تقول بيريرا “حتى الآن، لم يعلن أي سياسي نيته السير على نهج بولسونارو”.
هل تسود الشعبوية؟
والسؤال الآن: هل الشعبوية ستصبح هي الاتجاه السائد وتتعطل عقود من المعايير العالمية، وهو ما يؤكد عليه ستيف بانون كبير مستشاري البيت الأبيض الأميركي السابق الذي كان مقربا من دونالد ترامب.
يقول بانون “المصلحة الوطنية هي المهمة، الثورة الشعبوية تشتعل الآن مثل نار البراري من أوروبا إلى أميركا الشمالية إلى أميركا الجنوبية”.
ويضيف في تصريح لناشونال إنترست الأسبوع الماضي “التغيير الحقيقي يحدث -في جميع أنحاء العالم- سواء كان حزب المؤسسة في دافوس يحب ذلك أم لا”. وبالطبع، يعمل بانون على أن يصبح مثل هذا الاستشراف للمستقبل ممكنا، لذا فإن تقييمه لنجاح الحركة الشعبوية ليس محايدا تماماً.
ويختلف الخبراء مع تقييم بانون. يقول كوري شاكي الخبير في العلاقات الدولية بمعهد الدراسات الدولية الذي يتخذ من المملكة المتحدة مقرا “إن النظام الليبرالي يتعرض لضغوط شديدة” مضيفًا أن “أذرع الأمن التعاوني والازدهار ما زالت قوية”.
ويقول أيضا “شخص واحد يتحدى جوهر النظام الدولي الليبرالي هو: ترامب” الذي قال في اجتماع حاشد الأسبوع الماضي “أنا قومي”. وأضاف “الديمقراطيون يريدون إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، استعادة حكم الفاسدين ومؤيدي العولمة المتعطشين للسلطة”.
إن كلاً من خطابه وأفعاله -بما في ذلك مناهضة الهجرة والحد من التجارة الحرة- تشكل جهدا واضحا لتقويض الوضع الراهن.