بينما تبدو نهاية الطور العسكري للصراع السوري وشيكة، سوف يحسن صانعو السياسة الأميركيون صنعا إذا هم فكروا في مدى التغيير الذي طرأ في داخل الحرب وفي المسرح الدولي منذ العام 2011. فقد جر الصراع القوات التي تدعمها إيران إلى مسافة أميال فقط من حدود إسرائيل، وشهد صداما مباشرا بين الروس والأميركيين. وتؤكد نظرة على الوضع الراهن في سورية أن الولايات المتحدة فشلت في تحقيق هدف رئيسي من أهداف تدخلها في الأساس: الإطاحة بالرئيس الحاكم بشار الأسد من سدة السلطة. وفي مواجهة خسارة عسكرية وسياسية في سورية، يجب على الولايات المتحدة أن تفعل الآن ما في وسعها لتأمين انتصار على الجبهة الإنسانية. ولتحقيق ذلك، يجب أن تعمل واشنطن مع موسكو، الفاعل الوحيد المتمتع بتأثير قوي على نظام الأسد، والذي ربما يكون راغباً في الاستماع. وحتى تفعل ذلك، ينبغي أن تكون الولايات المتحدة مستعدة للاعتراف بدور روسيا الذي يزداد قوة في المجتمع الدولي، وأن تتعامل معها كشريك نظير في حالات معينة.
حتى نكون واضحين، فإن هذه أطروحة تدعو إلى تواصل أقوى وإجراء محادثات دبلوماسية –وليس إلى تقديم عرض آخر من الاسترضاء مثل ذاك الذي كان قيد العرض في هلسنكي. وستكون أكثر الطرق فعالية لتحقيق ذلك هي تحرير إطارعمل السياسة الخارجية من التفكير الواقعي الجديد لحقبة الحرب الباردة، والاعتراف بروسيا وقيادتها كفاعل مؤثر، والذي يقوم بأعمال لا يمكن تفسيرها دائماً بأنها تدخل في باب منافسة قوة عظمى.
إحدى البدايات الجيدة ستكون الانخراط بشكل أكثر مباشرة في عملية أستانا التي تقودها روسيا، وهي مسار دبلوماسي بديل عن عملية جنيف التي تقودها الولايات المتحدة. وفي نهاية تموز (يوليو)، استضافت روسيا الجولة الأخيرة من محادثات أستانا؛ ورفضت الولايات المتحدة إرسال ممثل عنها إلى الاجتماعات. ومن المقرر أن تُعقد الجولة التالية من المحادثات في تشرين الثاني (نوفمبر). وعندما التقى ممثلون من روسيا وإيران وتركيا في سوشي في تموز (يوليو)، حث بيانهم الختامي المجتمع الدولي على تقديم المساعدات لسورية. وسوف يساعد ذلك في تخفيف وطأة الوضع الإنساني المتدهور، وفي تمويل جهود إعادة الإعمار في سورية.
جادل الكاتب ستيفن كوك مؤخراً بأن سورية تشكل مثالاً آخر على الكيفيات التي تُضبط فيها الولايات المتحدة مأخوذة بالمفاجأة تحت الأضواء الكاشفة لكارثة دولية رئيسية. وليس كوك مخطئا في اعتقاده بأن واشنطن فشلت في معرفة عواقب التقاعس عن العمل في أعقاب صراعات التسعينيات، لكنه يتجاهل حقيقة أن روسيا كانت تدون الملاحظات على ما يبدو. ومنذ انهيار الاتحاد السوفياتي، راقبت روسيا نزعة المغامرة الأميركية في الشرق الأوسط في القرن الحادي والعشرين. وتقف موسكو الآن في موقف يؤهلها للتدخل كبديل ربما يكون القادة الإقليميون راغبين في العمل معه. ولا شك في أن أي إشارة إلى أن بوتين ربما يكون بصدد تليين موقفه في سورية تجانب الصواب. فعندما دخلت روسيا الصراع السوري في العام 2014، فإنها استخدمت قواتها العسكرية لإرسال رسالة إلى العالم وإلى الغرب، بأنها لن تقف على الخطوط الجانبية بينما يتم خلق فراغ آخر للسلطة في الشرق الأوسط. وبعد خمس سنوات لاحقاً تقريباً، يبرهن بوتين على أن روسيا يمكن أن تكون أكثر من مجرد تاجر سلاح في القرن الجديد.
في مقالة لهما نُشرت على موقع “سيريا كومينت”، يشير ديفيد ليسش وكمال علام إلى أن روسيا نجحت في الشراكة مع سورية لأن الكرملين ليس مهتماً بتغيير النظام هناك. وبالعمل مع الحكومة الراسخة، لم يضطلع بالمهمة الشابقة المتمثلة في إسقاط الزعماء وبناء البيروقراطيات.
من المرجح أن لا يؤدي التطرق إلى وضع الحقوق الإنسانية المتردي في سورية إلى الكثير من التأثير في دعم بوتين للأسد. فروسيا تستفيد استراتيجياً ومالياً من مبيعات الأسلحة إلى سورية. وهي تستفيد سياسياً عن طريق تغذية تحالفات إقليمية قوية. ومع ذلك، تبقى المخاطر أكبر من ميدان المعركة نفسه. فكما يرى بوتين، صنعت الحروب التي قادتها الولايات المتحدة عدم الاستقرار في الشرق الأوسط، والذي يهدد بالانتشار إلى حدود روسيا ومحطيها القريب. وبالإضافة إلى ذلك، فإن الدرس المتأصل بعمق في علاقتها مع الولايات المتحدة في فترة ما بعد الحرب الباردة هو أن روسيا أصبحت وحدها، وأن التهديد الموجه إلى سيادتها حقيقي. وقد اعتبرت روسيا توسع حلف الناتو في أواخر التسعينيات والوجود العسكري الغربي في أوروبا الشرقية تحدياً مباشراً لدورها كقوة هيمنة إقليمية. وفي الفترة الأخيرة، ذهب الرئيس البولندي شوطاً بعيداً إلى حد عرض دفع الأموال للولايات المتحدة لتبني قاعدة عسكرية في بلده (“قلعة ترامب”).
كلاً، لن يصبح بوتين “ليناً” في موضوع سورية في الأشهر القادمة –ولماذا يفعل؟ منذ التسعينيات، استطاع بلده البقاء بفضل حظوظه في مغامراته ورهاناته الكبيرة. وتجد موسكو نفسها الآن في وضع يمكنها من البناء بطريقة يمكن أن تتحدى بجدية دور الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وفي المجتمع الدولي الأوسع. وفي الآونة الأخيرة، تفاوض بوتين على صفقة مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان لتأمين منطقة منزوعة السلاح بعرض 15 كيلومتراً حول محافظة إدلب، آخر منطقة يسيطر عليها الثوار في سورية والهدف التالي للأسد. ولم تكن الولايات المتحدة مشاركة في المفاوضات التي أجلت مؤقتاً على الأقل ما يُتوقع أن يكون أكثر المعارك دموية في كامل الصراع السوري حتى الآن.
كل هذا يجعل من غير المرجح أن نجد روسيا وقد أصبحت فجأة قوة للسلام في العالم والمنطقة. وتقع مصالحها في الهيمنة في أوروبا الشرقية، بعيداً عن الحدود التي يبدو أنها تفتقر فيها إلى أي اهتمام بأخذ دور شرطي العالم. ولم يسمح تاريخها أبداً للبلد بأن يسعى إلى الاضطلاع بمهمات دبلوماسية مثالية أو سياسات قائمة على القيم، ومن غير المرجح أن يتغير هذا الآن. وربما يكون جون لي كاري، المؤلف وضابط الاستخبارات البريطانية السابق، قد كتب الفكرة أفضل ما يكون في كتابه الصادر في العام 1989، “البيت الروسي”:
“تعني خسارة الوقت خسارة كل شيء. لا يعطينا تاريخنا الروسي أي فرص ثانية. عندما نقفز من فوق هاوية، فإنها لا تعطينا الفرصة لقفزة ثانية”.
من خلال وقوفها بحزم خلف حلفائها وعرض نفسها كشريك موثوق لا يقف على الحياد بلا تدخل عندما يحتاجونها، كسبت روسيا الفرصة لإضعاف دور أميركا في الشرق الأوسط. وفي الوقت الحالي، سوف يظل الأسد، وسوف يبقى الكرملين حليفاً لسورية. ومهما تكن طبيعة محادثات السلام المنتظرة في الأمام، فإن روسيا ستأخذ بشكل شبه مؤكد دوراً ريادياً في التوسط بين الأسد والمجتمع الدولي. وفي هذا الوقت المتأخر من اللعبة، حان الوقت للاعتراف بأن ديناميات القوة قد تغيرت. وحان الوقت لإجراء حوار استراتيجي مع روسيا حول مستقبل سورية.
*متخرجة حديثاً في التاريخ والشؤون الدولية من رويال هالوي، جامعة لندن. عادت لتوها إلى العاصمة الأميركية بعد سنة من دراسة اللغة العربية في الأردن. عملت سابقاً على قضايا منع الانتشار النووي، والسياسة الخارجية الروسية، والأمن القومي الأميركي.