المرحلة الجديدة قد تكون لحظة انعطاف تسجل في تاريخ العراق، فعلى الرغم من أن العملية السياسية منذ عام 2003 وحتى اليوم حققت منجزات، خصوصاً على مستوى البناء الديموقراطي، لکن العراقيين واجهوا في المقابل العديد من التحديات والمخاطر التي نجمت في الغالب عن الخلل البنيوي في منظومة الحكم والصراعات الداخلية التي يغذيها الفساد والتجاذبات الاقليمية والدولية التي دفعت بالعراق لينتقل من أزمة خطيرة الى أخرى.
من الممكن ان تكون هذه المرحلة هي البداية الحقيقية لخروج العراق من دوامة أزماته، وبالتالي الاسهام في تجاوز المنطقة بالكامل لأزماتها، والطريق بات أكثر وضوحاً لدى العراقيين نحو الضفة الاخرى، وهو مرتبط باستحقاقات داخلية، وأخرى خارجية متبادلة مع الأشقاء والجيران ودول العالم، والقيادة العراقية الجديدة في المستويات التشريعية والتنفيذية تمتلك الرؤية الواضحة لمثل هذه الاستحقاقات.
داخلياً، تبدأ خريطة الطريق من إصلاحات حقيقية تضمن إعادة تمتين العقد وترميم الثقة بين المواطن والدولة، من خلال توفير الخدمات وفرص العمل وتطوير البنى القانونية في محاربة الفساد بقوة وحزم، والعمل على تشريع قانون انتخابات يضمن نزاهة العملية الانتخابية ويعزز ثقة المواطن العراقي بالآليات الديموقراطية، واطلاق حوار وطني داخلي لمعالجة الاختلالات البنيوية في منظومة الحكم وحل المشاكل المتراكمة بين اقليم كردستان والحكومة الاتحادية.
يصل تعداد نفوس السكان في العراق اليوم الى ٣٨ مليون نسمة، وهناك زيادة بمعدل مليون نسمة سنوياً، وهذه الزيادات السكانية تأتي وسط بنية خدمية مدمرة وبطالة متفشية، والمشهد قد يتفاقم من دون إصلاح اقتصادي شامل وجذري فعّال.
ولكن العراق في المقابل يمتلك مقومات اقتصادية متينة، يمكن استثمارها في نطاق سياسة اقتصادية رشيدة، تنقل البلاد من الاقتصاد الريعي المتعثر وغير القادر على تلبية احتياجات المواطنين، الى اقتصاد ناهض ومنتج وسوق واعدة.
ان تحقيق الأمن المجتمعي والسلم الاهلي مرتبط بتحديث شامل للبنى الاقتصادية، وتشجيع الاستثمار، وتوفير فرص العمل، والنهوض بالصناعات الوطنية، وتشجيع الانتاج الزراعي، ودعم المشاريع العمرانية الكبرى، جنباً الى جنب مع تشجيع المشاريع المتوسطة والصغيرة.
لقد نجحت الدولة العراقية بتعاونها الإقليمي والدولي في دحر «داعش»، وقد تمكنت من ذلك نتيجة وحدة شعبها وتكاتفه، ونبذه للخلافات، ووقوفه مدافعاً عن مدنه ومصيره وانتمائه الوطني.
والعراق دفع اثماناً باهظة لمعركته ضد الارهاب، ومع انه يتقدم بالشكر والتقدير الى كل الاطراف الاقليمية والدولية التي ساندته ومازالت في تلك المعركة المصيرية، فإن استحقاقات اجتثاث الارهاب من جذوره مازالت تستدعي المزيد من التعاون الإقليمي والدولي، بوصفها قضية تخص الأمن والسلم الدوليين، فالعمل على استقرار العراق سيعزز الإرادة الجدية في العمل على استقرار منطقة الشرق الاوسط، ولا يمكن القضاء على الإرهاب من دون استقرار العراق واخذ دوره الطبيعي في المنطقة.
إن اكمال المعركة ضد الارهاب فكراً وتجفيف منابعه، يتطلب البدء بعمليات إعادة إعمار المدن المتضررة، ورعاية الضحايا، وتنمية آفاق الفكر المتسامح، وتشجيع الحوار الاجتماعي وخلق أجواء وئام سياسي لإصلاح وضعنا الداخلي جنباً الى جنب مع ضبط الأمن ودعم الاجهزة الأمنية العراقية وتطوير قدراتها الدفاعية والإنسانية.
ومن نافلة القول، إن تلك المعركة مثلت لدى العراقيين نموذجاً للدفاع عن السيادة والوحدة الوطنية، كما انها أظهرت ايضاً النتائج الإيجابية للتعاون الاقليمي والدولي ضد الأخطار المشتركة.
سيكون من مهمات العراق في هذا المجال تطوير مستوى التفاهم مع دول المنطقة والإجراءات الجدية التي تطوّق الإرهاب فعلاً وتمنع حريته بالتحرك والتمويل والتجمع والتحشيد وصولاً إلى بيئة إقليمية نظيفة من الإرهاب ومن بواعث نشوئه، وهذا ما نأمل أن يساعدنا فيه الأشقاء والأصدقاء، ويساعدوا فيه أنفسهم في الوقت ذاته، فعلينا جميعاً أن نتعاون من أجل، سلام بلداننا، وأمن شعوبنا.
أمامنا العديد من التحديات أبرزها مشكلة المياه وهي أخطر ما يهدد الحياة والبيئة وسيكون لها تداعيات سلبية على الواقع العراقي في مجالات عديدة، ما يتطلب العمل الجاد لحل مشكلة المياه في المنطقة، ومعها كذلك مسائل ضبط الحدود وتنظيم التجارة والسياحة الدينية والثقافية، وكلها عوامل تستدعي منا، في العراق، ومن جيراننا تهيئة أسباب التفاهم والوصول إلى اتفاقات تخدم الجميع وتنمّي أجواء الثقة والاطمئنان.
إن مصلحتنا الوطنية تكمن في حسن الجوار واحترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، ورفض سياسة المحاور، والتمسك بالدور العراقي المحوري في بناء منظومة أمن إقليمي يستند الى الاحترام المتبادل للسيادة وحقوق شعوب المنطقة وان التعاون والتكامل الاقتصادي والثقافي والأمني والانمائي، هي مفاتيح أساسية للنهوض بمنطقة الشرق الأوسط برمتها، عبر استبدال لغة الخلاف بالاتفاق، والتناحر بالتعاون، والبناء على المشتركات، قبل الوقوف أمام الخلافات.
والعراق يسعى الى بناء أفضل العلاقات مع عمقه العربي والخليجي، والتعاون مع اشقائه في إرساء قواعد حسن الجوار والتكامل الاقتصادي والنهوض الثقافي المشترك، كما تجمع بين العراق والجمهورية الاسلامية الايرانية روابط علاقات متينة، نطمح الى تنميتها وتقوية أسسها لتكون بدورها مثالاً للتعاون من أجل نماء واستقرار المنطقة، وان علاقات متميزة تربط العراق بتركيا تحمل بدورها آفاقاً مفتوحة للتطور، وهذا ما يعزّز فرص سلام ناجز تستحقه المنطقة وشعوبها.
إنه سلام لن يظلّ مجردَ وعدٍ لعموم المنطقة، إذا ما تحقق الاستقرار الأمني التام في العراق الديموقراطي الاتحادي، وفي سورية، بتفاهم وطني مخلص بين الأشقاء السوريين، وبما يصون سلام سورية وأمن شعبها، وفي اليمن، بما ينهي معاناة شعبها ويرسي عوامل سلامها وحقوق مواطنيها.
لن يبقى السلام مجرد حلم إذا ما نجحنا معاً، وعبر التعاون الاقليمي والدولي، في خلق أجواء حوار إيجابي بنّاء يطفئ النار الكامنة تحت رماد الاختلافات، ونعمل في العراق، على أن يكون الدور العراقي الناهض عاملاً مساعداً في كل هذا وحيثما طُلب منه دورٌ إيجابي، مستندين الى حقيقة ان منطقتنا يمكن ان تحقق بالسلام والتعاون انجازات لشعوبنا أكثر بكثير مما قد تحققه الاختلافات.
برهم صالح
رئيس جمهورية العراق