رغم ما تشهده الساحة الفرنسية من احتقان شعبي عميق ترجمه خروج جماهير غفيرة في حركة «السترات الصفراء» فإن الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون أبدي اصرارا عميقا على المضي قدما في تنفيذ خارطة الإصلاح التي اعتمدها منذ وصوله للاليزيه. وهوما أكده بنفسه فى أكثر من مناسبة.
حيث قال ماكرون إن الإصلاحات السياسية والاقتصادية التي يقوم بها ستستمر على الوتيرة نفسها، معترفا في الوقت نفسه بأن «بعض الأخطاء قد ارتكبت» منذ وصوله إلى سدة الحكم. رغم الانتقادات التي يواجهها منذ شهور،وتدني شعبيته بشكل مستمر جراء الفضائح، مثل فضيحة ألكسندر بينالا، مؤكدا أنه لا ينوي «تغيير سياسته».. كان ماكرون قد أكد في حوار مطول مع جريدة «لوجورنال دو ديمونش» الفرنسية قبيل المظاهرات التي شهدتها فرنسا بأيام قليلة وبمناسبة زيارته أقاليم ما وراء البحار – أخيرا أنه لن يغير سياساته مهما يكن الأمر.
مؤكدا عزمه إحداث التغييرات والقيام بالإصلاحات لتحسين وضع البلاد. موضحا أن هذه الإصلاحات لم تتجرأ أحزاب اليسار ولا اليمين على القيام بها في السابق، في إشارة إلى قانون إصلاح قطاع السكك الحديدية، وحجم التحدي الذي واجهته الحكومة حتي تم التوصل إلي إقراره في نهاية المطاف.
واضاف ماكرون: «هدفي ليس المكوث لفترة طويلة في السلطة بقدر ما هو تحقيق أكبر قدر من الإنجازات»، مؤكدا فى الوقت نفسه أن إصلاحات جديدة ستطرح للنقاش من بينها إصلاح قطاع الضمان الاجتماعي ونظام التقاعد والقطاع العام وقطاع الطاقة وقطاعات اقتصادية واجتماعية أخرى.. ويعول الرئيس الفرنسي علي ثقته في الحكومة، وعلى رأسها إدوار فيليب، في القيام بهذه الإصلاحات رغم الصعوبات التي ستواجهها من قبل النقابات والأحزاب المعارضة.
وأكد ماكرون مرة اخري رغبته في «تغيير وجه فرنسا في المستقبل القريب».وقال «أنا لن أستسلم للأمر الواقع وللصعوبات والانتقادات» .
هذا الإصرار من جانب الرئيس قابله على الجانب الآخر دعوة غضب شعبي عارم بدأت في التحرك والحشد علي وسائل التواصل الاجتماعي منذ الشهر الماضي، وخرجت لها حشود المواطنين لشوارع باريس ومدن فرنسية عدة. حيث شهدت فرنسا أمس الأول تظاهر نحو 244 ألف شخص في جميع أنحاء البلاد، وسجل هذا اليوم إصابة نحو 47 شخصا، وأعلنت الشرطة الفرنسية وفاة امرأة إثر حادث سير وقع فى أثناء المظاهرات كما أوقفت عناصر الشرطة نحو 24 شخصا، واضطرت قوات الأمن لاستخدام الغاز المسيل للدموع لمكافحة الشغب وتفريق التجمعات.وهى المظاهرات التى أيدها ثلاثة أرباع الفرنسيين تقريبا وللمرة الأولي يشارك معهم نواب للشعب ورؤساء للبلديات والمدن الصغري ورؤساء الأحزاب والمعارضة.. فى إشارة واضحة إلى أن الكيل طفح بهم من تداعيات الغلاء والتراجع المتزايد لقدرتهم الشرائية، مع استمرار الحكومة في سياسة التعنت والضغط علي المواطن متبعة أسلوب التجاهل حيال شكواهم.
كانت الحكومة قد كشفت عن اعتزامها تطبيق زيادة علي أسعار الوقود وفرض مزيد من الضرائب وهو ما يعد سببا أساسيا لهذه المظاهرات خاصة أننا نتحدث عن شعب مثقل أصلا بضرائب علي كل شىء.
ويري بعض المراقبين ان ماتقوم به الحكومة من فرض المزيد من الضرائب يتعارض مع برنامج ايمانويل ماكرون الانتخابي، الذى دخل على أساسه الاليزيه في مايو 2017 مع حزمة من الوعود بينها عدم فرض مزيد من الضرائب علي الفرنسيين ــ بل وتخفيفها ــ، ومكافحة البطالة ورفع مستوي المعيشة ورفع القدرة الشرائية للمواطنين.
والواضح ان عدم تحقيق هذا الوعد زاد من تفاقم الغضب الشعبي وأشعل النيران الخامدة تحت الرماد.. ومن دون شك تتجلي الأمور ببساطة فمع مرور كل يوم من حقبة الرئيس ماكرون الذي عقدت عليه الكثير من الآمال يفاجأ الفرنسيون بالمزيد من الأعباء المادية من زيادة في فواتير الغاز والكهرباء الي فرض ضرائب إضافية وفِي المقابل تقليص في الخدمات الاجتماعية.. وعلي سبيل المثال لا الحصر تعتزم الحكومة فرض ضريبة علي الدراجات البخارية.كما ان أحدث زيادة مزمعة علي الوقود ستثقل ميزانية المواطن العادي بنحو 50 يورو تقريبا في الشهر.
وذلك في الوقت الذي لم يلمح المواطن فيه أي مجهود يبذل في ظل رئاسة ماكرون، فهناك ازدياد في حجم الدين العام وصل إلي 40 مليار يورو،في حين انه كان 25 مليار يورو فقط في الحقبة الرئاسية -السالفة- لنظيره الاشتراكي فرانسوا أولاند.
وبالطبع كلها أسباب أدت الي احتقان المجتمع وترجمتها المظاهرات التي اجتاحت البلاد،فهي لم تكن نقابية عمالية كما اعتدنا في فرنسا، بل إنها كانت شعبية حاشدة جاءت بدعوات من مختلف أطياف الشعب، تعبيرا عن حالة معاناة نالت من مختلف الشرائح من العاملين في الدولة وأرباب المعاشات وأصحاب الشركات الصغيرة والمتوسطة.. وهنا تجدر الإشارة إلي أن احتجاجات السبت الأسود ــ الفائتة ــ تعيد للأذهان حركة مايو 1968،التي خرج فيها الشعب عن بكرة أبيه تعبيرا عن حالة الغضب ــ المتشابهة الآن ــ علي الغلاء، والتي بدأ إشعال فتيلها آنذاك حزمة من الشباب وتبعهم حشود للمواطنين من جميع الأطياف، وقد سجلت هذه المظاهرات عددا لا بأس به من الوفيات كضحايا لحالة الغليان الشعبي وقتها.
من ناحيتها بررت الحكومة الزيادة المزمعة في أسعار الوقود بأنها وسيلة لتقليص استخدام السيارات العاملة بالغاز،بغية التقليل من الأضرار الناجمة عن مخاطرها.
وبالطبع كل هذه الأسباب وغيرها دعت إلي بزوغ حركة شعبية متنوعة أطلقت على نفسها اسم «السترات الصفراء»، وتجدر الإشارة إلي أن السترات الصفراء تعد إلزامية في السيارات الفرنسية في حال وقوع حوادث.وقد قام المنظمون بتوزيعها علي المتظاهرين بغية انتشار هذا اللون المتميز علي خريطة البلاد ليكون أفضل تعبير عن خروج جموع المواطنين وابلاغ رسالة امتعاض شديدة اللهجة للرئيس والحكومة معا.
وذلك بالرغم من أن الحكومة حاولت التهدئة وأعلنت بعض التدابير لمساعدة العائلات المحدودة الدخل. وكان ذلك قبل ثلاثة أيام من المظاهرات التي اجتاحت البلاد،إلا أنها أكدت أنها لا تنوي التراجع عن رفع الضرائب على الوقود التي تشكل أحد أبرز أسباب الاستياء الشعبي.
وعلي صعيد التهدئة نفسه قررت الحكومة تأمين «مساعدة كبيرة» لتغيير سيارات لـ 20% من الأسر المعوزة، والتي ربما تصل إلى 4000 يورو مما يضاعف المساعدة القائمة.والواقع أن هذا المبلغ لا يتناسب وحجم الغلاء الطاحن الذي يواجه المواطنين ،وهو الأمر الذي انتقدته المعارضة بشدة.
ويذكر أن قيمة هذه المساعدات تبلغ نحو 500 مليون يورو بما فيها زيادة المساعدة للطاقة التي تبلغ تكلفتها نحو مائتي مليون يورو حسب تصريحات رئيس الوزراء.
وبالعودة لأهم ما جاء في حوار الرئيس ماكرون في «لوجورنال دو ديمونش» وفي سؤال حول تدني القدرة الشرائية خلال السنوات القليلة الأخيرة والحلول التي يمكن أن يقترحها، فقال ماكرون إنه «لم يتم انتخابه من أجل تحسين القدرة الشرائية للفرنسيين، بل للقضاء على البطالة وإصلاح قطاع العمل». واستكمل حديثه بثقة :»السياسة التي أنتهجها هي سياسة ذات رؤية بعيدة المدى. والسؤال الذي أطرحه لنفسي كل صباح هو كيف يمكن تحسين وضع الفرنسيين وعلى أى طريق سنضع بلدنا في السنوات العشر المقبلة».
وحول الانتخابات الأوروبية المقررة في مايو2019 المقبل، صرح ماكرون بأن هذا الموعد الانتخابي «لن يؤثر على السياسة التي تتبعها الحكومة. مشيرة الي ان الحقبة الرئاسية في فرنسا مدتها خمس سنوات. وان لدينا أغلبية برلمانية تسمح لنا بتمرير كل القوانين التي نريدها عكس النظام الأمريكي الذي ينص على تنظيم الانتخابات النصفية» التي يمكن أن تغير الخريطة السياسية للبلاد.. والواقع أن فرنسا شهدت يوما صعبا من الشغب وإغلاق الطرق، وطالب المتظاهرون الذين حاولوا كسر الحواجز الأمنية لقصر الاليزيه باستقالة ماكرون. ويبقي أخيرا الرهان الصعب أمام الرئيس الطامح في تغيير وجه فرنسا ليجد نفسه بين مطرقة الإصلاح وسندان متطلبات المواطنين.