بعد نحو ثماني سنوات من اندلاع الحرب في سوريا، يتمسّك سليم، برفضه أداء الخدمة العسكرية الإلزامية، على غرار غالبية الشباب الدروز من أبناء محافظة السويداء، غير آبهين بدعوة حازمة وجهتها لهم دمشق مؤخرا للالتحاق بالجيش.
ويصف تشارلز غلاس، المحلل في مركز ستراتفور للأبحاث الأمنية والاستراتيجية، دروز سوريا، بأنهم أكبر مجموعة سكانية تمردا في تاريخ سوريا الحديث، مشيرا إلى أن خيار الحياد “لم يكن سهلا بالنسبة للدروز بوجود قوات النظام في الشمال وتنظيم الدولة الإسلامية في الغرب وجهاديين آخرين في محافظة درعا في الجهة الشرقية ومتمردين يعبرون الحدود الأردنية من الجهة الجنوبية”.
ويعتبر غلاس أن ما يعيشه الدروز اليوم، هو بسبب عدم استيعاب المجتمع الدولي لخصوصية المجتمع السوري، مشيرا إلى أن القوى الخارجية التي حاولت إسقاط نظام الأسد عن طريق تسليح المئات لم تفهم ديناميات المجتمع السوري وولاءات مجموعاته السكانية. لقد أقصت هذه القوى العناصر الأقوى والأنجع كالدروز والإسماعيليين والمسيحيين والإيزيديين، وبالتالي يُتفهّم موقف الحياد الذي اتبعوه، حيث لم يحملوا السلاح ضد النظام ولم ينخرطوا في المعارضة باستثناء قلة.
ويجد الدروز، الذين يشعرون بأنهم طائفة معزولة عن النطاق العربي والإسلامي المحيط بها وحصرتها السياسات في صورة أهل الجبل (نسبة إلى جبل الدروز)، أنفسهم اليوم أمام معضلة الحفاظ على موقفهم في البيئة السورية المتغيرة مع عودة سيطرة النظام على أغلب الأراضي وتراجع تنظيم الدولة الإسلامية، حيث يبدو أن الحياد سيكون في مصاف “الخيانة” بالنسبة للنظام السوري.
هجمات وتكفير
ينقل غلاس عن حفيدة السلطان باشا، وهي مدرسة فرنسية متقاعدة اسمها ريم الأطرش أن جدها كتب رسالة إلى أتباعه خلال ثورة عام 1925 جاء فيها “من الضروري عدم تدمير الملك العام. ومن المهم عدم القتل”. وأضافت “إنه الزعيم الحقيقي للثورة الوطنية”، وقارنت كلماته بالجهاديين الذين دمروا مدينة تدمر الأثرية وأعدموا المسيحيين واستعبدوا الإيزيديين.
وكان من أبرز ما تعرّض له الدروز خلال الحرب وفي فترة استقواء تنظيم الدولة الإسلامية، أن هذا الأخير لم يكتف بالهجمات الإرهابية بل طالب الموحدين الدروز الذين يقطنون في بلدات ريف إدلب بـ”إشهار إسلامهم”.
وتعرض الدروز لعدة اعتداءات من قبل تنظيم داعش، أكثرها دموية كان في يوليو الماضي، بعدما شن تنظيم الدولة الإسلامية هجمات واسعة في محافظة السويداء أسفرت عن مقتل أكثر من 260 شخصا. وفي نوفمبر 2012، تعرضت ضاحية جرمانا قرب دمشق، ذات الغالبية الدرزية والمسيحية لتفجير انتحاري أودى بحياة 54 شخصا.
وسيطرت الفصائل المعارضة على بعض القرى عند أطراف المحافظة الغربية المحاذية لمحافظة درعا، لكن قوات النظام طاردتهم منها العام 2018 خلال هجومها لاستعادة كامل الجنوب السوري. وفي يونيو 2015، قتل 20 مواطنا درزيا برصاص جبهة النصرة في قرية قلب لوزة في محافظة إدلب. وأفاد المرصد السوري لحقوق الإنسان بأن عناصر النصرة اتهموا الدروز بـ”الكفر” قبل إطلاق النار عليهم.
وفي العام 2016، أعدم تنظيم الدولة الإسلامية أربعة عمال لانتمائهم إلى الطائفة الدرزية. وفي 2017، قتل تسعة أشخاص في تفجير انتحاري بسيارة مفخخة في بلدة حضر ذات الغالبية الدرزية في هضبة الجولان. وفي 25 يوليو 2018، قتل أكثر من 260 شخصا في هجوم واسع تخللته عمليات انتحارية لتنظيم الدولة الإسلامية في محافظة السويداء.
وخلال الهجوم، خطف التنظيم حوالي 30 سيدة وطفلا. وقد أفرج عن ستة منهم في أكتوبر بموجب اتّفاق تبادل أسرى مع دمشق. وفي الثامن من نوفمبر، أعلنت دمشق تحرير باقي المختطفين في عملية عسكرية. وكان خمسة منهم قد قتلوا خلال فترة الاحتجاز جراء إعدامات أو اشتباكات كما توفيت امرأة مسنة.
وكان التنظيم قد انسحب بعد الهجوم إلى منطقة تلول الصفا الصحراوية المحاذية للمحافظة، قبل أن يطرده الجيش السوري منها في الـ17 من نوفمبر. وانسحب مقاتلو التنظيم، وفق المرصد، إلى البادية، بناء على اتفاق مع دمشق التي تلقت وعودا من مشايخ الدروز بالعمل على إقناع الشباب للالتحاق بالجيش في حال إبعاد خطر التنظيم عن المحافظة.
منقسمون في النزاع
في بداية النزاع، أيّد قسم من الدروز الاحتجاجات المطالبة بإسقاط النظام، ورفض الممثلون الدينيون للطائفة في الوقت ذاته الدخول في مواجهات ضد النظام. وكان خلدون زين الدين أول ضابط درزي انشقّ عن الجيش السوري في العام 2011، وقتل في معارك خاضتها فصائل معارضة للتقدم في محافظة السويداء في 2013. في المقابل، برزت أسماء ضباط في الجيش عرفوا بولائهم المطلق للنظام وأبرزهم العميد في الحرس الجمهوري عصام زهرالدين الذي بقي محاصرا لسنوات في مدينة دير الزور، خاض خلالها معارك ضد تنظيم الدولة الإسلامية. ثم قتل في انفجار لغم بعد فك الحصار عن المدينة.
كما برز اسم الشيخ وحيد البلعوس الذي تزعمّ ما عرف بـ”مشايخ الكرامة”، وهي مجموعة ضمّت رجال دين وأعيانا ومقاتلين وعملت على حماية المناطق الدرزية من تداعيات النزاع. وعرف البلعوس بمواقفه الرافضة لقيام الدروز بالخدمة العسكرية خارج مناطقهم. كما كان من أشد المعارضين للتنظيمات الإسلامية المتطرفة.
وقتل البلعوس في تفجير سيارة مفخخة في سبتمبر 2015 في مدينة السويداء. واتهم مناصروه النظام بقتله، إلا أن دمشق أعلنت اعتقالها عنصرا من جبهة النصرة قالت إنه اعترف بتنفيذ التفجير.
بعد أيام من تحرير النساء والأطفال الدروز الذين خطفهم تنظيم الدولة الإسلامية لأكثر من ثلاثة أشهر، دعا الرئيس السوري بشار الأسد أبناء المنطقة إلى الالتحاق بالجيش، معتبرا التخلف عن ذلك بمثابة “تهرب من خدمة الوطن”.
بدت الدعوة وكأنها مقايضة، “أمنكم وحمايتكم مقابل خدمتكم” في الجيش، الأمر الذي يرفضه سليم (27 عاما) وغيره من الدروز. وتخلف عشرات الآلاف من الشبان عن التجنيد الإجباري، مستعيضين عن ذلك بحمل السلاح دفاعا عن مناطقهم فقط.
وغضّت دمشق المنشغلة بجبهات أخرى الطرف طوال السنوات الماضية عن المتخلفين عن الخدمة العسكرية في السويداء. لكن بعد الانتصارات الكبيرة التي حققتها على الأرض وإثر الهجوم الأخير لتنظيم الدولة الإسلامية في السويداء، دعا الرئيس السوري بشار الأسد أبناء المنطقة إلى الالتحاق بالجيش، معتبرا التخلف عن ذلك بمثابة “تهرب من خدمة الوطن”.
تخلف الآلاف من الدروز خلال سنوات النزاع عن الالتحاق بالخدمة العسكرية، بعضهم بسبب معارضتهم للنظام، والغالبية بسبب رفضها القتال في مناطق خارج المناطق الدرزية. والتحق عدد كبير منهم في لجان شعبية تم تشكيلها خلال سنوات النزاع للدفاع عن مناطقهم خصوصا في السويداء، أبرزها “مشايخ الكرامة”، فضلا عن مجموعة “درع الوطن” الموالية للنظام والتي تشكلت في أبريل 2015 وضمت حينها ألفي عنصر. وضمت هذه اللجان رجال دين ومقاتلين رافضين لتجنيد الدروز خارج مناطقهم.
وكان سليم قد حمل السلاح ضمن هذه اللجان، لصد الهجوم الذي شنّه تنظيم الدولة الإسلامية في 25 يوليو على مدينة السويداء وريفها الشرقي.
وخطف التنظيم حينها نحو 30 شخصا، أفرج عن ستة منهم الشهر الماضي بموجب اتّفاق تبادل أسرى مع دمشق. وفي الثامن من الشهر الحالي، أعلنت دمشق عن تحرير باقي المختطفين في عملية عسكرية. وكان خمسة منهم قد قتلوا خلال فترة الاحتجاز جراء إعدامات أو اشتباكات كما توفيت امرأة مسنة.
واتهم البعض من أبناء الأقلية الدرزية، على مواقع التواصل الاجتماعي، قوات النظام بإفساح المجال أمام الهجوم الأخير للتنظيم للضغط على أبناء المحافظة.
وأثناء استقباله وفدا من المختطفين المحررين وعائلاتهم، ربط الأسد بين الهجوم وغياب انتشار الجيش. وقال “لو كان كل الناس ملتحقين، كان الجيش قد تواجد في كل المناطق. لذلك أنا أقول، كل واحد تهرب من خدمة الجيش، هو تهرب من خدمة الوطن (…) ويتحمل ذنبا في كل مخطوف وشهيد”.
لكن، يستغرب سليم، الذي يستخدم اسما مستعارا في حديث مع وكالة فرانس برس، تصريحات الأسد ويرى فيها نبرة تهديد. ويوضح “للمتخلفين عن الخدمة أسبابهم (…) والنظام يقول لنا: داعش أو الالتحاق بالخدمة”، مؤكدا رفضه لها حتى لو فرضها النظام بالقوة. ويضيف سليم “لا أريد أن تكون لي بصمة في حمام الدم السوري (…) لا أرغب في أن أقتل ابن حماة وحمص أو أي محافظة أخرى ليبقى فلان على كرسيه”، مشددا “الجيش مقبرة للعمر والحياة، خصوصا أن لا سقف يحدد مدة الخدمة خلال سنوات الحرب”.
وباتت الخدمة الإلزامية تستمر سنوات عدة جراء الحرب، بعدما كانت مدّتها الأساسية تقتصر على نحو عامين فقط. وخشية من توقيفه على حواجز قوات النظام واقتياده إلى التجنيد، يحصر سليم تنقلاته ضمن حدود محافظته فقط.
ويرى أستاذ العلاقات الدولية خطار أبودياب، المواكب لوضع دروز السويداء، في تصريحات الأسد “تهويلا لن ينفع”، معتبرا أنه “يريد أن يأخذ أهل السويداء ليكونوا طعما لمعارك مستقبلية”، فيما يؤكد الكاتب اللبناني خيرالله خيرالله أن “ما حدث في السويداء مهمّ جدا. هناك عملية مكشوفة تستهدف تطويع دروز سوريا… وأداة عملية التطويع هذه داعش”، مضيفا أن “قوّة الدروز تكمن في أنهم يعرفون دائما الدفاع عن أرضهم بصلابة، وليس في المشاركة في غزوات في مناطق بعيدة مثل إدلب إرضاء لرئيس النظام والإيرانيين والروس”.
ويقول نور رضوان (26 عاما)، مدير شبكة السويداء 24 المحلية للأنباء، “استفاد النظام من العنف المفرط الذي ارتكبه داعش ليحاول إعادة السويداء إلى بيت الطاعة”.
محافظتنا أولى بنا
يقول الناشط والباحث همام الخطيب (37 عاما) إن السويداء تتحول ليلا إلى “مدينة أشباح، يحمل المتنقلون فيها أسلحة فردية لحماية أنفسهم”. ويضيف “يستخدم النظام طرقا أخرى لعقاب السويداء، كداعش بدلا من البراميل، أو الفوضى والجريمة بدلا من الاعتقالات”.
ويقدر المرصد السوري لحقوق الإنسان وجود 30 ألف شاب درزي متخلفين عن الخدمة، لافتا إلى اجتماعات متتالية يجريها ضباط روس مع مشايخ الدروز لتسوية هذا الملف. ورغم ذلك، يصرّ عديّ الخطيب (25 عاما) على رفض التجنيد لأن “الحرب مستمرة والقتل مستمر. ونحن لسنا آلة للقتل”.
ويضيف الشاب القاطن في السويداء “شبّان السويداء متخلفون عن الجيش، وأنا منهم، لكننا نحن من تصدينا لاعتداء داعش، والجيش لم يساندنا”. ويتساءل “كيف بإمكاننا اليوم أن نخلي المنطقة ونلتحق بالجيش؟ محافظتنا أولى بشبابها”.