زهرة الخشخاش أو الوردة الحمراء، يراها المتجول وسط المملكة المتحدة هذه الأيام على صدور سترات وقمصان المارة والمسؤولين. وفي بعض الساحات زينت مضيئة بلون الدم.
كثرت الأساطير حول هذه الزهرة واختلطت بين الموت والدم والحب والقبح والجمال. هي قديمة قدم الإنسان، احتار أين يدرجها وكيف يتعامل معها. تعرف إليها وتعامل معها حسب ظروفه وزمانه. هل حيرته تركيبتها البيولوجية الرقيقة والناعمة والقوية والحساسة في آن واحد، وسرعة تحولها. فهي تنمو وتتوهج تحت أشعة الشمس لكنها ما إن تنفتح حتى تشحب وتذبل وحتى قبل أن تشبع حواس الناظر إلى جمالها. رأى فيها العاشق جمال وعبق محبوبته واصفاً رائحتها بمخدر من الجنة.
عرفها سكان شمال أفريقيا منذ آلاف السنين ولمسوا في جمال شكلها وعطرها ما ينعش النفس وحولوها لعطور ومواد للتجميل لا يزال بعضها حاضراً لليوم.
رمزت عند البوذي إلى العودة للحياة أو الحياة الأخرى أو التغّير والانفتاح بوجه الانغلاق. وهي رمز الموت عند الروم واليونانيين، حين وجدوا جثث محاربيهم وسط حقول الخشخاش، فظنوا أن دماء جنودهم استحالت لأزهار. وصفها أدباء عاشوا أيام نابليون، بالزهرة القانية التي انفجرت من قلب أرضٍ فاضت بدماء الجنود بعد انتهاء المعارك، وهدوء الضجيج والدخان، وصوت الموت، وصرخات العذاب، والخروج من الحياة. لتحول ساحات المعارك من أراضٍ جدباء مخيفة لزهور من الجنة سكونها كسًر مخلفات الرعب وحول الأرض للوحة أمان.
استخدمت هذه الزهور منذ زمن بعيد رمزاً للنوم بسبب المادة المخدرة الموجودة فيها. ومن يسافر لأفغانستان يقف على الدليل.
وظفها الكاتب الأميركي ليمان فرانك في قصته الشهيرة” The Wonderful Wizard of Oz” التي كتبها للأطفال وصور فيها حقول الخشخاش السحرية التي تحول من يدوس عليها إلى كائن نائم لا يستطيع الاستيقاظ. وتحولت هذه القصة إلى فيلم رسوم متحركة وما زالت تطبع بأعداد كبيرة حتى اليوم.
تعددت الأساطير ورآها كل حسب ظروفه. حكى التاريخ عن علاقتها بالحروب كما حكى عن دموية النصف الأول من القرن العشرين، وعن الآلام التي خلفتها حربان مدمرتان، حصدتا أرواح ملايين البشر وتركتا المرارة في النفوس. استمر الشعور بالرعب والغضب والاشمئزاز من الحروب لدى من عاشوها، وممن تسبب بإشعالها وأخذ الأحباب والزرع وأهلك الأرض ومن عليها.
هربوا من العودة إليها ورفضوا المزيد منها، وبحثوا عن رمز يعبرون به عن هذه المشاعرالقاسية ليؤكدوا عبره تعاطفهم مع من سقط في ساحات القتال، ولم يجدوا أفضل من زهرة الخشخاش، وما أشبه حياتها الحساسة والقصيرة العمر بحياة الفتيان اليافعين الذين يذهبون إلى الحرب ويفقدون حياتهم قبل أن يهنأوا بها وتهنأ بهم أمهاتهم.
بدأ ذلك بعد حوالى سنتين من انتهاء الحرب العالمية الأولى وبالتحديد عام 1920، حين وضعت إحدى العاملات في مطعم نيويوركي، زهرة خشخاش في عروة قميصها في ذكرى انتهاء الحرب، وتبعتها بعض النسوة الأخريات. ثم جاءت امرأة فرنسية في زيارة إلى نيويورك ولاحظت استخدام الزهرة كرمز، فعادت إلى فرنسا لتبدأ صنع زهور يدوية وتبيعها للناس وتجمع التبرعات لصالح الأطفال في المدن الفرنسية المتضررة من الحرب.
وبعد ذلك بحوالى سنة قام وزير أميركي ببيع زهور الخشخاش في حملات واسعة للتبرع لصالح المحاربين. وبدأ هذا التقليد ينتشر تدريجياً، في أوروبا وأستراليا.
في بريطانيا وفي شهر نوفمبر/ تشرين الثاني من كل عام، ومنذ 97 عاما يتكرر مشهد وضع الزهرة على الملابس من الجهة القريبة من القلب تعبيرا عن الحزن واحتواء الأرواح داخل الصدور، ونرى المشهد نفسه في شتى أنحاء بريطانيا، من أبسط أفراد العامة وحتى رأس الهرم. والبداية كانت في عام 1921، حين احتفل البريطانيون للمرة الأولى بهذه المناسبة.
ولم يكن اختيار هذا اليوم من قبيل المصادفة، إذ إن الحرب العالمية الأولى انتهت في الساعة الحادية عشرة من يوم الحادي عشر من الشهر الحادي عشر من عام 1918. واختار المدنيون هذا اليوم لتذكر أولئك الذين ضحوا بأرواحهم من أجل السلام والحرية.
وجاءت قصيدة لجون ماكري عن حقول فليندرز الحمراء كمصدر إلهام للاحتفال بهذا اليوم الذي أصبح من الأعياد البريطانية، والتي ترثي الجنود الذين قضوا نحبهم وتذكر نمو زهرة الخشخاش في حقول المعارك التي سقط القتلى فيها، تحولت القصيدة الى ما يشبه النشيد الوطني في كندا وإلى أحد مقررات الدراسة الثانوية في مدارس بريطانيا، وذلك لما تحمله من معان رمزية جميلة عن مشاعر قتلى الحروب الذين لا يريدون أن يطويهم النسيان.
اليوم نرى زهور الخشخاش تزهر في نوفمبر من كل عام، لا على أرض المعارك والقتال، إنما على ملابس ملايين البشر في أنحاء العالم، في احتجاجات صامتة على كل ما يوجع الناس ويهدد أمنهم.