أثار التصريح الصهيوني الأخير بشأن القضاء على الدولة العثمانية في الحرب العالمية الاولى، وأنه قد فتح الطريق أمام صعود الحركة الصهيونية؛ الكثير من الحقائق الثابتة تاريخيًّا، وفتح مجددًا باب الجدل حول ماهية الحكم العثماني ودوره، وحول البروباغاندا الدعائية الغربية، التي بُثت بالتزامن مع محاولة إحياء الشعوبية وإزكاء الروح القومية والطائفية داخل جسد الأمة الإسلامية إبان القرن التاسع عشر، تمهيدًا للسيطرة على الرأي العام الإسلامي وتبديل مفاهيمه حول تلك الدولة الإسلامية الأخيرة المحافظة على ترابط النسيج الإسلامي أمام الهجمات المستعرة من الغرب آنذاك لتقطيع أوصال ذلك الجسد الواحد وشل أي حركة مقاومة تنبثق من لُحمته.
هكذا لم يكن مشروع تقسيم الدولة العثمانية أو ما يسمى بـ«المسألة الشرقية» وليد ظروف الحرب العظمى (1914 ـ 1918م)، وإنما بدأت إرهاصاته قبلها بأكثر من قرن، إلا أن التنفيذ الفعلي على الأرض لم يكن ممكنًا من الناحية العملية إلا بعد نقض التوازن القائم بين الدول الأوروبية، والمستمر منذ عام 1815م بعد انتهاء الحروب النابليونية؛ خاصة وأن روسيا القيصرية كانت طوال القرن التاسع عشر تقف موقف المترقب للانقضاض على الدولة العثمانية باعتبارها الوريث الشرعي للأراضي البيزنطية الواقعة تحت سلطانها، إلا أن القوى الغربية وعلى رأسها بريطانيا وفرنسا أوقفت هذه المحاولات التي بلغت ذروتها إبان حرب القرم (1853 ـ 1856م). غير أن المشهد بدأ في التغير بتصاعد وتيرة الأحداث التي تقود إلى حرب أوروبية عامة بعد ظهور ألمانيا الموحدة كقوة عظمى في قلب القارة في الربع الأخير من القرن، مُحْدِثة ذلك الخلل الذي قاد إلى الحرب.
لم يكن أمام ألمانيا إلا التقارب مع الإمبراطوريتين القديمتين في وسط وشرق القارة، العثمانية والنمساوية ـ المجرية، للوقوف أمام الإمبريالية الغربية بقيادة بريطانيا وفرنسا، وفي المقابل لم يكن أمام العثمانيين في سبيل المحافظة على دولتهم إلا التجاوب مع هذا التقارب للحد قدر الإمكان من التدخلات الغربية التي أوشكت أن تجهز على ما تبقى من أراضي الدولة، في وقت اشتدت فيه الهجمات الاستعمارية في كل مكان حتى بلغت ذروتها، وهكذا خلال ما يربو على الربع قرن تكونت كتلتان متضادتان في المصالح والأهداف لاح مع تكونهما شبح الحرب العامة التي تجنبتها أوروبا بكل الوسائل الدبلوماسية لمدة قرن من الزمان.
كانت اليد الغربية تعبث في بنية المجتمع الإسلامي العثماني، من خلال التغلغل تحت مسميات شتى لفصم عرى الوحدة وبث النزاعات والحزبية والطائفية
في خضم هذه الصراعات كانت اليد الغربية تعبث في بنية المجتمع الإسلامي العثماني، من خلال التغلغل تحت مسميات شتى لفصم عرى الوحدة وبث النزاعات والحزبية والطائفية؛ فما كان من السلطان عبد الحميد الثاني (حكم: 1876 ـ 1909م) إلا أن حاول الوقوف أمام هذه التحديات من خلال التقاربات والموازنات السياسية التي تحفظ للدولة وحدتها من ناحية، ومن ناحية أخرى عن طريق تقوية اللُّحمة الإسلامية بانتهاج سياسة «الجامعة الإسلامية»، التي عملت على تقارب شتى طوائف الأمة ونبذ الفرقة والطائفية والوقيعة بين العرب والترك التي يبثها الغرب عبر دعاته. واحتدمت حرب خفية قبل أن تحتدم الحرب الحقيقية، وبدأت الأذرع الغربية في العمل خفية وعلانية في الداخل والخارج، واتجهت الأبواق الإعلامية لشيطنة السلطان العثماني وسياسته، حتى أننا نجد بعض الصحف العربية المحلية التي كانت تصدر آنذاك، كجريدة المقطم في مصر، تصف سياسة الجامعة الإسلامية على النحو التالي: «إن معنى الدعوة إلى الجامعة الإسلامية هو الدعوة إلى الجهاد، ويعني تعزيز الإسلام عندهم إهلاك غيرهم، فهم لا يفهمون أن يكون الإسلام عزيزًا إلا بإبادة خصومهم».
كان من أبرز السياسات التي انتهجها الغرب استخدام الأقليات ـ التي تكفلت الدولة العثمانية بحمايتها طوال تاريخها ـ في سبيل ذرع القلاقل وبث الفتن، ومن ثم التذرع بالتدخل لإخماد هذه الفتن أو لحماية طائفة معينة يُرَوَّج كذبًا باضطهادها، كما حدث في مسألة الأرمن. وكانت الصهيونية وفكرة إنشاء وطن قومي لليهود على أرض فلسطين، التابعة للسلطان العثماني منذ عام 1516م، من الوسائل التي وجد الغرب أن مساندتها قد تزيد من الصدع المراد داخل أراضي الدولة وبين طوائفها؛ وللمفارقة، صار اليهود ـ الذين طالما عانوا من الاضطهاد العنصري في أوروبا لقرون من الزمان ـ أمة مستضعفة مسكينة تنظر لها القوى الغربية بعين العطف؛ وصارت الدولة العثمانية ـ الدولة الوحيدة التي قبلت باحتضان اليهود إبان طردهم بالآلاف من أوروبا على يد محاكم التفتيش في مستهل العصر الحديث ـ هي العدو الذي يعملون بكل وسائلهم على إسقاطه.
وتبين أن الحرب العالمية الأولى التي استمرت فعليًّا نحو أربعة أعوام، في الحقيقة ما هي إلا ذروة صراع امتد لعقود، وصدام كان حتمي الحدوث آجلاً أم عاجلاً لحسم المشاكل الدولية المعلقة وإنهاء الأنظمة التي نمى الغرب في ظلها وتطور وصار عليه الإحلال محلها بشكل أو بآخر، مرسيًا نظامًا عالميًّا جديدًا على أسس يحددها هو، وعلى رأسها بالطبع إمبراطورية هابسبورغ النمساوية ـ المجرية، والدولة العثمانية الممثل للعالم الإسلامي، والإبقاء على ألمانيا وحيدة ذليلة مجردة من أية قوة، مما مهد للتطرف الذي تبنته النازية بعد ذلك وألقمته للشعب الألماني، فقاد إلى كارثة الحرب العالمية الثانية، فقط بعد عقدين من الزمان.
هكذا وبعد مائة عام من فصم عرى الاتحاد الإسلامي الكبير بين العرب والترك، علينا أن نعقد مقارنة سريعة بين حال الأمة عامة والعرب على وجه الخصوص قبل وبعد الوحدة؛ وأن نتساءل هل استطاعوا بالفعل تحقيق النهضة المبتغاة التي منَّاهم بها الغرب فقط للإجهاز على هذا الاتحاد، وهل استطاعوا بعد ذلك امتلاك حق تقرير المصير والتخلص من الهيمنة؟