بالنسبة لمسؤولي مكافحة الإرهاب، يتمثل أحد أصعب تحديات مكافحة الإرهاب في التعرف إلى ميدان الصراع العالمي التالي، والذي سيشجع -مثلما الحرب الأهلية السورية- الكثيرين من مسلمي العالم ويدفع بعشرات الآلاف من المقاتلين الأجانب للانضمام إلى المعمعة. ومع ذلك، كما يحذر مثل دنماركي، فإن “من الصعب القيام بالتنبؤات، خاصة عندما يتعلق الأمر بالمستقبل”. ولكن، في حين أن مسؤولي مكافحة الإرهاب يجب أن يكونوا متيقظين للقضية التالية التي ستُنتِج -مثلما فعلت سورية- موجة من المقاتلين الأجانب والإرهاب، فإنهم لا ينبغي أن يبنوا على الفرضية الماضية كمقدمة. وفي واقع الأمر، هناك الكثير من الأسباب للاعتقاد بأن ظهور “الدولة الإسلامية” في سورية والتدفق الهائل للمقاتلين الأجانب للقتال كان يعود إلى ظروف غير معتادة (ولو أنها ليست فريدة من نوعها).
تطور تنظيم “الدولة الإسلامية” مما كان يعرف سابقاً باسم “تنظيم القاعدة في العراق”، الذي كان قد ظهر ليقاتل الولايات المتحدة والحكومة التي يقودها الشيعة في العراق بعد سقوط صدام حسين في العام 2003. وعندما واجه النظام السوري الاضطرابات المحلية في العام 2011، والتي أعقبها نشوب حرب أهلية شاملة، وجد مقاتلو تنظيم القاعدة في العراق فرصة -وملاذاً- ليستغلوهما وقاموا بتوسيع نطاق وحجم عملياتهم. وقد استفاد التنظيم من الاضطهاد المتزايد الذي مارسه النظام العراقي، الذي قام بتهميش، بل وقتل وسجن السنة، حتى أولئك الذين كانوا راغبين في التعاون مع الحكومة. ومن سورية، اجتذب “داعش” تعاطفاً عالمياً مع المتمردين السوريين ومع العداء لنظام الأسد. وسمحت الدول المجاورة، مثل تركيا، بمرور حر نسبياً للراغبين في الذهاب إلى ميدان المعركة. وأثبت “داعش” نفسه أنه ناجح بشكل لا يصدق: في ذروة قوتها، حكمت “الخلافة” التي أسسها أراضٍ بحجم بريطانيا وبسكان زاد عددهم عن 10 ملايين نسمة. كما استفادت المجموعة أيضاً من الإعلام الاجتماعي ونشرت رسالتها، وهو ما مكنها من الوصول بسرعة إلى الجماهير والمتلقين في كل أنحاء العالم.
للوهلة الأولى، ربما يبدو الوضع أسوأ بالنسبة لخصوم المجموعة اليوم. فقد تم الدفع بـ”داعش” إلى العمل تحت الأرض بعد خسارة كل مناطقه تقريباً، لكن التنظيم لم يُهزَم؛ وما يزال الآلاف من أعضائه منخرطين في القتال. بل وهناك الأسوأ، حيث يحتفظ “داعش” والتنظيمات المتطرفة الأخرى، مثل “القاعدة”، بتواجد مهم في بلدان مثل مالي، وباكستان، والصومال وأجزاء أخرى من العالم الإسلامي. ومع أن تدفقات المقاتلين الأجانب الخارجين من سورية لم تكن كبيرة، فقد تمكنت أعداد صغيرة من شق طريقها إلى ليبيا، وأفغانستان وميادين الجهاد الأخرى. بل وربما يكون الأكثر أهمية أن شبكات المتطرفين ما تزال قوية. وتبني كل موجة من التشدد، نمطياً، على الموجة الأخيرة التي سبقتها. وبالنظر إلى حجم روافد “داعش” من الأنصار الخارجيين –حيث اجتذب التنظيم من المقاتلين الأجانب أكثر مما اجتذبت أفغانستان، والعراق، وكل ميادين الجهاد المعاصر مجتمعة- يستطيع المرء توقع أن تكون للقضية الجهادية التالية شبكات موجودة مسبقاً والتي ستساعد في نشر نشر الرسالة، والوصل بين المقاتلين، وتسهيل الحركة. وما تزال الروايات التي دفعت صعود “داعش”، مثل الطائفية، والمناهضة لأميركا التي حفزت “داعش”، حاضرة وقوية.
ربما يكون الأمر الأكثر إثارة للقلق هو أن العداء والعنف المتصاعدَين في الولايات المتحدة وأوروبا ضد المسلمين، والخطب المتعصبة ضدهم من كبار المسؤولين، تهدد بتنفير المسلمين غير المتطرفين، وخلق إحساس بالاغتراب لديهم ومفاقمته. وفي كثير من الأحيان، ترتبط المخاوف المتعلقة بالإرهاب بالخوف من المهاجرين، مثلما يحدث الآن مع “قافلة المهاجرين” التي تقترب من الولايات المتحدة عبر المكسيك، والتي يفترض أنها تضم إرهابيين في صفوفها. وبالإضافة إلى ذلك، تؤدي النزعة اليمينية المتطرفة المتصاعدة إلى إنتاج عنف وخطاب مناهضَين للمسلمين، مما يزيد من مخاطر تغريبهم وإثارة سخطهم. وعادة ما تكون المجتمعات التي تتعرض للتغريب أكثر انكشافاً أمام تجنيد المتطرفين، وأقل احتمالاً لأن تعمل مع سلطات فرض القانون للإبلاغ عن مثيري المتاعب المحتملين.
مع ذلك، ومع كل هذه المشاكل، ثمة سبب وجيه للاعتقاد بأن قضية عالمية تحفز التطرف الإسلامي على مستوى مثل سورية ربما لا تكون مرجحة. فقد كان الصراع في سورية غير عادي، في جزء منه بسبب الشرعية التي تمتعت بها قضية المتشددين في البداية. وقد اعتُبر الرئيس السوري بشار الأسد دكتاتوراً قتل مئات الآلاف من أبناء شعبه. وطالب الرئيس باراك أوباما الأسد بالتنحي، في حين وصفه رئيس الوزراء البريطاني، ديفيد كاميرون، بـ”الجزار”. وكانت محاربة نظام الأسد بالكاد قضية هامشية يعتنقها المتشددون وحدهم.
نتيجة لذلك، لم تشجع الولايات المتحدة وبلدان أخرى مباشرة المقاتلين المناهضين للأسد فقط، وإنما لم تتدخل أيضاً لمساعدة الحكومة السورية –على العكس مما فعلت في العراق، ومالي، والصومال، والعديد من الدول الأخرى حيث تعمل القوات الأميركية مباشرة لحماية الحكومة، وتقديم المساعدة غير المباشرة للنظام أو الجيوش المحلية، أو كلا الأمرين معاً. وهناك القليل من البلدان في العالم مثل سورية، حيث يعارض كل من الجهاديين والولايات المتحدة النظام بقوة (تشكل إيران مثالاً جديراً بالملاحظة).
بينما دعا القاعدة الغربيون إلى معارضة الأسد، فقد بدأت القضية السورية، ثم “داعش” في نهاية المطاف، باجتذاب المتطوعين، بينما غضت الكثير من الدول النظر عن مغادرة مواطنيها -أو كما كان الحال في روسيا، تشجيعهم على المغادرة. ولعدة سنوات، لم تقم بعض الدول مثل بلجيكا، التي لديها واحد من أعلى متطوعي “داعش” قياساً على حصة الفرد، ببناء أجهزتها المخابراتية كما يجب أو الاستجابة بخلاف ذلك للتهديد في الوقت المناسب. لكن ذلك تغير الآن، خاصة بعد الهجمات الإرهابية التي شُنت في باريس في العام 2015. وكانت تلك الهجمات التي أسفرت عن وقوع 130 ضحية هي الأسوأ التي عانت منها أوروبا في أكثر من عقد، وقد ولّد الوضع المتفاقم للصراع السوري والدعاية الدموية لتنظيم “داعش” المخاوف من أن ذلك كان نذيراً بالأسوأ الذي سيأتي. وحتى المتلكئين مثل بلجيكا قطعوا خطوات مثيرة للإعجاب في مجال الأمن. وأصبح التعاون المخابراتي الأوروبي، ولو أنه ما يزال في حاجة إلى تحسينات، أفضل من أي وقت مضى.
كان استعداد تركيا للسماح للمقاتلين بعبور حدودها غير معتاد أيضاً. في السابق، كانت للجهاديين الآخرين نقاط عبور -باكستان شكلت بوابة عبور إلى أفغانستان، على سبيل المثال. لكن الطريق كان في معظم الأحيان صعباً ومكلفاً، ويتطلب شبكات تهريب كثيفة. وعلى النقيض من ذلك، ظهر متطوعو “داعش” في تركيا بسهولة، حيث وفر لهم التنظيم مرافقة عبر الحدود. وبمجرد أن شرعت تركيا في حراسة حدودها بشكل أكثر جدية، جف هذا الدفق.
كما كثفت شركات التكنولوجيا جهودها أيضاً. وعلى الرغم من أن أمامها طريق طويل لتقطعه، فإنها تهاجم بقوة المحتوى المرتبط بالجماعات الإرهابية وتسحبه من الشبكة، وترشِّد التنسيق، وتستخدم المزيد من الموظفين، وتقوم بتحسين شروط لعبتها. ومن الممكن أن تستخدم الجماعة القادمة تقنيات صاعدة أخرى وتعيد الاستيلاء على وادي السيليكون. ولكن، وفيما يعود في جزء منه إلى استغلاله من قبل الجماعات المتطرفة ومنظمات المخابرات الأجنبية، ذهبت الثقة المطلقة القديمة في الخير المتأصل للإنترنت الآن إلى غير رجعة، ومن المرجح أن تكون كل من الحكومات وشركات التقنية أكثر يقظة.
يأمل المرء في أن ذلك الخليط من العمل الشرَطي الأكثر جسارة، وتقديم المساعدات للأنظمة المناهضة للجهاديين، ومراقبة الحدود، ويقظة الإنترنت، والإجراءات الأخرى، سوف يجعل من الأصعب على أي مجموعة جهادية تحقيق نجاح من المستوى الذي فعله “داعش”. وسيكون استخدام ذلك المستوى من النجاح كمقياس مهماً. ويجب تزويد أجهزة الأمن بالموارد، ويجب على الولايات المتحدة أن تعمل مع الحلفاء لمنع المشكلات الصغيرة من أن تصبح كبيرة، ويجب على قطاع التكنولوجيا أن يتحمل درجة من المسؤولية. وإذا ما تم اتخاذ هذه الخطوات، فإن فرصة تكرار سورية ستكون أقل بكثير.