سيكون على المؤرخين في المستقبل أن يبحثوا بجدية عن مجموعة متساوقة من السياسات التي يمكن أن تشكل “الميركلية”. لم تظهر المستشارة أنها امتلكت رؤية عظيمة للسياسة الألمانية المحلية أو الخارجية. وكانت أقرب إلى مدير -كما قال أحد كُتاب سيرتها الذاتية، وكانت إجابتها عن كل مشكلة هي “تجنب الانخراط فيها”.
* * *
كانت المغادرة التي تم الإعلان عنها لأول مستشارة أنثى لألمانيا غير متوقعة ومُسترقَة، تماماً كما كان وصولها إلى السلطة قبل 13 عاماً. وفي خطبة موجزة في نهاية الشهر الماضي، أعلنت أنجيلا ميركل أنها لن تسعى إلى إعادة انتخابها كمستشارة، ولن تترشح لقيادة حزبها الشهر المقبل. وهكذا، تأتي حقبة “موتي” ميركل، كما هي معروفة شعبياً بالكلمة الألمانية التي تعني “الأم”، إلى نهاية هادئة وبلا ألَق.
لن يكون تعريف إرث ميركل المحلي سهلاً، لأنه مرتبط وثيقاً باستجاباتها للأزمات الرئيسية التي ابتليت بها أوروبا. وسيكون تعريف إرثها في الشرق الأوسط مراوغاً بالمقدار نفسه، بسبب الكيفية التي حافظت بها على ظهور قليل في مجال السياسة الخارجية.
لكن أحد العناصر التي يجب أن تكون جزءاً من كل من النقاش حولها هو قرارها، في ذروة أزمة الهجرة في العام 2015، إبقاء حدود بلدها مفتوحة أمام المهاجرين والسماح لأكثر من مليون شخص بتقديم طلبات للجوء. وكانت لذلك القرار تداعيات محلية وعالمية هائلة. فقد أجبَر كل بلد أوروبي آخر على تبرير رد فعله، وأثر بقوة على الجماهير الأوروبية التي كانت محبطة وخائبة الأمل مسبقاً من مؤسسات الاتحاد الأوروبي.
كما كانت له تداعيات أيضاً في كل أنحاء منطقة الشرق الأوسط؛ حيث أثار أولاً نقاشاً حول عدد اللاجئين الذين كانت تستوعبهم بلدان تلك المنطقة، ثم أثار المزيد من النقاش حول مقدار المساعدات التي تقدمها الدول الغربية لهذه البلدان الشرق أوسطية التي تستضيف الجزء الأكبر من اللاجئين.
لكن الأمر الذي ربما يكون أكثر جدارة بالانتباه هو ما لم يحققه هذا القرار العام. فبطريقة تستحق الملاحظة، لم يعم هذا القرار المهم والمحوري، والذي سيناقشه المؤرخون في كلتا المنطقتين لعقود، على تقوية موقف ميركل كزعيمة عظيمة. وقد اتخذت ميركل واحداً من أصعب القرارات في كل الوقت الذي أمضته في السلطة، فقط لتجد قليلاً من الأتباع الذين يناصرونها.
سيكون على المؤرخين في المستقبل أن يبحثوا بجدية عن مجموعة متساوقة من السياسات التي يمكن أن تشكل “الميركلية”. لم تظهر المستشارة أنها امتلكت رؤية عظيمة للسياسة الألمانية المحلية أو الخارجية. وكانت أقرب إلى مدير -كما قال أحد كُتاب سيرتها الذاتية، وكانت إجابتها عن كل مشكلة هي “تجنب الانخراط فيها”.
وإذن، كان الأكثر إثارة للانتباه والدهشة أن ميركل اتخذت خلال الربيع العربي أكثر قرار يتخذه زعيم غربي أهمية. ولم يكن أي قرار اتخذه زعيم غربي بمثل هذه التداعيات المتسلسلة -ربما كان القرار الوحيد الذي يقترب من ذلك هو رفض الرئيس الأميركي باراك أوباما إنفاذ “الخطوط الحمراء” التي وضعها على استخدام الأسلحة الكيميائية في سورية. وقد جاء هذا، بعد كل شيء، من امرأة نادراً ما كانت تتخذ موقفاً في الشؤون الخاصة بالوطن أو الخارج إلى أن تهدأ الرياح السياسية.
لم تقل أنجيلا ميركل أي شيء عن الانتفاضات العربية حتى أطيح بالرئيس المصري حسني مبارك. وقد رفضت الانضمام إلى مهمة منظمة حلف شمال الأطلسي في ليبيا. وحتى عندما أصبح الرئيس التركي رجب طيب إردوغان أقل شعبية في ألمانيا، فإنها نادراً ما انتقدت ما يفعله في سورية.
مع ذلك، حول أزمة المهاجرين أظهرت ميركل قيادة حقيقية. وفي وجه المعارضة المحلية، أدركت أن حجم الأزمة -أكبر موجة هجرة للناس تشهدها أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية- تتطلب استجابة تذهب أبعد من شؤون السياسة اليومية. ومع ذلك، نادراً ما ألمحت ميركل إلى ذلك، وما يزال ذلك القرار -التاريخي في تداعياته- لا يُرى كدليل على القيادة. وبطريقة ما، في اللحظة حاولت فيها إظهار القيادة أكثر ما يكون، وجدت ميركل القليلين الذين يريدون أن يتبعوها.
تكمن الإجابة عن السبب في كل من أوروبا والشرق الأوسط. لم يقتصر الأمر على أن ميركل وجدت القليل من الأتباع في الشرق الأوسط، وإنما وجدت القليلين منهم أيضاً في الجوار. وقد جعلت الانقسامات في المنطقة من الصعب على البلدان الشرق أوسطية أن تدعم أي حل معيّن لأزمة اللاجئين، ناهيك عن اقتراح حل. وحول أزمة المهاجرين، كما هو حال الكثير من القضايا الأخرى، لم يكن هناك أي إجماع عربي، ولا مجموعة من السياسات التي يمكن أن تجتمع دول المنطقة حولها.
كما لم تستطع ميركل ولا ألمانيا أن تخلق إجماعاً أيضاً. وعلى الرغم من أنها وُصِفت، خاصة بعد انتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة، بأنها الزعيم الجديد للعالم الحر، فقد تصرفت ميركل بالكاد كما ينبغي لهذا الزعيم. وقد قادت ألمانيا، وإنما ليس القارة، فيما يعود في جزء منه لأسباب سياسية: حيث تفتقر ألمانيا إلى الثقل العسكري اللازم لقيادة أوروبا، كما أنها تحمل الحقائب التاريخية التي تدفعها إلى عدم المحاولة.
لكنه كان أمراً شخصياً أيضاً. فللعديد من السنوات، وخاصة حول الأزمة المالية قبل عقد، تعرضت ميركل للانتقاد على كونها غير طموحة بما يكفي لألمانيا، لأنها تبنت منهجاً إدارياً في بلد كان بكل وضوح بيت الطاقة في أوروبا. ومع ذلك، بعد الكثير جداً من السنوات التي قللت فيها من شأن قوة ألمانيا، فإنها بالغت في حالة أزمة اللاجئين في تقدير قوة ألمانيا وقوتها الشخصية على حد سواء.
لو كان أي زعيم أميركي هو الذي اتخذ مثل هذه الخطوة الجريئة، لكان من المحتمل أن يعيد تعريف الطريقة التي يُنظر بها إلى الأزمة، بحيث تُرفع من أزمة تواجهها دول مفردة إلى واحدة ذات أبعاد تاريخية. ومن الممكن تصور أن خطة كبيرة كانت ستوضع، كما حدث بعد الحرب العالمية الثانية، والتي تحظى حتى بقبول ومشاركة الدول في الشرق الأوسط. ومن الممكن تصور تاريخ بديل؛ حيث تقوم أزمة اللاجئين بالربط بين أوروبا والشرق الأوسط بدلاً من تقسيم المنطقتين.
أما أن ذلك لم يحدث، فهو يعود في جزء منه إلى ميركل نفسها. وكان هنري كيسنغر قد لاحظ مرة أن قدر ألمانيا هو أن تكون “كبيرة جداً على أوروبا، وصغيرة جداً على العالم”. وحول أزمة اللاجئين، في لحظتها التاريخية لإظهار مؤهلات القيادة العالمية، أثبتت أنجيلا ميركل أنها صغيرة جداً على قيادة العالم الغربي.