“باريس تحترق»، هكذا لخّص «جيلبير.م» الطبيب المتقاعد الذي التقته «الشرق الأوسط» في جادة فوش المتفرعة من ساحة «الإتوال» التي يتربع فوقها قوس النصر.
سيارات محروقة بالعشرات، ودخان كثيف يغلّف العديد من الأحياء الباريسية، وجولات كرٍّ وفرٍّ منذ الصباح الباكر بين رجال الأمن الذين جُنِّد منهم ما يزيد على 5.5 ألف عنصر، وبين المحتجين، وإطلاق قنابل صوتية وأخرى مسيلة للدموع، وتراشق بالحجارة المقتلَعة من الطرق، وحرائق منتشرة في أكثر من دائرة، وتهشيم واجهات بنوك والدخول إليها، وإغلاق برج إيفل أمام السياح، وإخلاء المخازن الكبرى في أوج الفترة السابقة لأعياد رأس السنة وسرقة بعضها، والقبض على أكثر من مائتي شخص وإصابة نحو مائة بجروح، بينهم بضع عشرات من قوى الأمن… هذا غيض من فيض ما عرفته باريس، أمس (السبت)، في يومها الطويل العنيف الذي فاق العنف فيه أضعاف ما شهدته السبت الذي قبله.
ما قاله الطبيب المتقاعد استعاره من عنوان فيلم شهير عن تحرير باريس من الاحتلال النازي، في إشارة إلى المعارك التي شهدتها والعدد الكبير من الضحايا الذين سقطوا. لكن ربما الأصح إقامة مقارنة بين ما عاشته العاصمة الفرنسية، أمس، وبين ما عرفته في ربيع عام 1968، المعروف بـ«الثورة الطلابية»، التي دامت أسابيع، وعرفت معارك متاريس، وانتهت لاحقاً برحيل الجنرال ديغول عن السلطة.
وأمس سُمعت شعارات تدعو إلى استقالة الرئيس إيمانويل ماكرون، الذي كان موجوداً في بوينس آيرس للمشاركة في قمة العشرين. ومن العاصمة الأرجنتينية، أعلن ماكرون عن اجتماع صباحي سيعقده، اليوم، في قصر الإليزيه بحضور رئيس الحكومة إدوار فيليب، الذي ألغى زيارته إلى فرصوفيا للمشاركة في قمة الأرض، وبحضور وزير الداخلية كريستوف كاستانير، وكبار المسؤولين الأمنيين لمراجعة ما يمكن اعتباره «قصوراً» في الخطة الأمنية التي أعدتها وزارة الداخلية ومديرية الشرطة في باريس لمواجهة ما كان متوقعاً من «الفصل الثالث» من الحركة الاحتجاجية التي انطلقت قبل 15 يوماً ولا يبدو أنها سوف تهدأ. لا، بل إن التوقعات تشير إلى مزيد من التشدد والراديكالية.
وفي تعليقه على أحداث العاصمة، نضحت تصريحات ماكرون بالتشدد لجهة معاقبة «المشاغبين» الذين «دنّسوا» -حسب تعبيره- قوس النصر وقبر الجندي المجهول وكتبوا على حيطانه شعارات. وقال ماكرون إنه «لن يرضى أبداً بالعنف» الذي ارتكبه المشاغبون المنضمون إلى «السترات الصفراء». وكان وزير الداخلية قد قدّر عددهم قبيل الظهر بنحو 1500 شخص جاءوا إلى جادة الشانزليزيه بثيابهم السوداء وأقنعتهم الواقية من الغاز… قال ماكرون إن «مرتكبي أعمال العنف هذه لا يريدون التغيير، لا يريدون أي تحسن، إنهم يريدون الفوضى، إنهم يخونون القضايا التي يدّعون خدمتها ويستغلّونها. سيتم تحديد هوياتهم وسيحاسَبون على أفعالهم أمام القضاء»، أما بخصوص «السترات الصفراء» الحقيقيين، فقد أعلن أنه «يحترم الاحتجاج على الدوام» وأن «غضبهم مشروع» وبالتالي سوف «يستمع إلى المعارضة على الدوام»، لكنه «لن يرضى أبداً بالعنف».
بيد أن المشكلة الحقيقية، وفق المراقبين هنا في باريس، أن كلام الرئيس عن فهم شكاوى الناس «لا يُترجَم إلى أفعال»، وأن الدولة ما زالت على مواقفها الرافضة لإطفاء الشعلة التي كانت وراء انطلاق الاحتجاجات، والمتمثلة في برنامج زيادة الرسوم على المحروقات والذي يحل فصله القادم في الأول من يناير (كانون الثاني). وحتى اليوم، رفضت الحكومة «تجميد» الرسوم رغم ارتفاع الأصوات حتى من داخل الحزب الرئاسي «الجمهورية إلى الأمام»، أو من حليف ماكرون الأول فرنسوا بايرو الذي دعا السلطات إلى القيام بمبادرات من شأنها تفكيك «اللغم المتفجر» الذي يكاد يأخذ البلاد إلى الهاوية.
وبدت دلالات العنف مع ساعات الصباح الأولى بعد أن منعت القوى الأمنية «السترات الصفراء» من الوصول إلى جادة الشانزليزيه، مسرح أعمال العنف الأسبوع الفائت، إلا بعد إبراز بطاقات الهوية وتفتيش ما يحملونه. وكان واضحاً أمس، أن المتظاهرين نجحوا في إرباك القوى الأمنية لأنهم «أشعلوا» أكثر من جبهة في وقت واحد توزعت بين الجادة المتفرعة من ساحة «الإتوال» الواقعة أعلى الشانزليزيه امتداداً إلى جادات كليبر، وفوش، وغراند أرميه، نزولاً إلى شارع ريفولي التجاري المعروف بفنادقه الفخمة. ومن هناك توجه المشاغبون، الذين كانت تحلّق فوقهم باستمرار طوافتان أمنيتان، إلى ساحة الأوبرا ومنها إلى المخازن الكبرى الشهيرة «لافاييت» و«برنتون».
ويبدو للمراقبين أن «المعالجة الحكومية» للأزمة التي اقتصرت على بعدها الأمني من جهة، وعلى استغلال أعمال الشغب التي رافقتها لنزع الشرعية عنها وانتظار تفكك التعاطف الشعبي معها من جهة أخرى، لم تنجح، رغم أعمال العنف التي رافقتها أمس كما السبت الماضي.
وإذا كان ماكرون محقاً في قوله إن «أي قضية لا تبرِّر مهاجمة قوات الأمن ونهب محال تجارية وتهديد مارة أو صحافيين وتشويه قوس النصر»، إلا أنه في المقابل لم يستفِدْ من الفرص التي توفرت له، وأهمها الخطاب الذي ألقاه منتصف الأسبوع الفائت في قصر الإليزيه، وفيه خطا نصف خطوة نحو المحتجين بالإعلان عن قيام «آلية» لمراجعة زيادات الرسوم وفق تبدل أسعار النفط. والحال أن ما كان ينتظره المحتجون هي «بادرة» تبيّن أن الرئيس يستمع إلى مطالبهم لا أن يغدق عليهم الوعود. وعلى أي حال، لم تعد الحركة الاحتجاجية محصورة في رسوم المحروقات، بل تحولت إلى «سلة مطالب» منها خفض الضرائب، ورفع الرواتب الدنيا، وزيادة المعاشات التقاعدية، إضافةً إلى مطالب أخرى مثل تشكيل «مؤتمرات شعبية» لمناقشة كل ذلك في بلد ديمقراطي تتمتع فيه السلطات بالشرعية التي تستمدها من صناديق الاقتراع.
ولم تقتصر الحركة الاحتجاجية على العاصمة وحدها بل شملت المناطق الفرنسية كافة، إذ شهدت مدن في بوردو وتولوز وتارب وأوش، وفي مناطق أخرى جنوب غربي فرنسا، صدامات بين المحتجين ورجال الأمن.
ووفق مصادر وزارة الداخلية، فإن أعداد المحتجين بقيت دون المائة ألف، وبالتالي فإنها تناقصت قياساً إلى الأسبوعين الماضيين. لكنّ باريس استلبت الاهتمام المحلي والعالمي، وفيها علت صرخات أصحاب الفنادق والمتاجر والمطاعم وكل أماكن اللهو والخدمات، من تدهور صورتها ومن الخسائر المادية والمعنوية التي تلحق بها. والخوف الأكبر أن تتواصل الاحتجاجات كل يوم سبت حتى نهاية العام.
ومن جانبه، عبّر رئيس الحكومة عن «صدمته» إزاء ما شهدته العاصمة، أمس، داعياً إلى ملاحقة المشاغبين وتقديمهم للعدالة.